منح آخر استطلاع رأي للمستثمر دونالد ترامب المركز الأول وبفارق كبير عن المتنافسين على الفوز بمن سيمثل الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستجري السنة المقبلة، والتساؤل: هل يمكن الأخذ بعين الاعتبار خطاب هذا السياسي لاسيما في ظل تقدمه الحثيث وسط الرأي العام الأمريكي بأطروحاته المثيرة للجدل حول طرد المهاجرين السريين واستعادة مجد الولايات المتحدة.
واستطاع دونالد ترامب منذ بداية أغسطس/آب الماضي ضمان صفة المرشح الأول والمفضل وسط أنصار الحزب الجمهوري، حيث حصل على 28% في استطلاع أجرته جامعة كينكياب من ولاية كينكتكت خلال الأسبوع الماضي. وحصل المرشح الثاني على 13%، أي بفارق 15 نقطة.
وبينما يثير دونالد ترامب الاستهجان وسط الرأي العام الدولي بأطروحاته السياسية، ترتفع أسهمه السياسية بشكل ملفت وسط الولايات المتحدة بسبب الوصفة الانتخابية التي يعتمدها. وصفة يصفها البعض بالبسيطة.
ويعتمد دونالد ترامب في برنامجه السياسي على ملفات شائكة منها فرض ضرائب متشددة على الاستيراد من الصين وأساسا مكافحة الهجرة السرية ومنها طرد المكسيكيين المقيمين بطرق غير قانونية، حيث لم يتردد في وصفهم بالمجرمين ومروجي المخدرات ومغتصبي الأمريكيات، متعهدا بطرد 11 مليون منهم وسن قوانين صارمة للهجرة ومعارضت لمشروع الرئيس باراك أوباما بتسوية أوضاع المهاجرين. وتسعفه أرقام الإجرام التي تورط فيها المكسيكيون في تعزيز أطروحته.
ويقول بعض المراقبين بشعبوية دونالد ترامب وبساطة خطابه السياسي الذي يعتمد أساسا على مكافحة الهجرة. لكن التساؤل الجوهري: هل يمكن لحزب مثل الجمهوري الذي قام بتحرير العبيد في القرن التاسع عشر وتبنى مجموعة من المبادرات لصالح الحريات الفردية والإثنية رغم طابعه المحافظ أن ينمو وسطه سياسي مثير للجدل مثل دونالد ترامب ويتحول الى وجهه البارز في هذه الفترة؟ على الأقل حتى الآن في انتظار حسم من سيمثل الحزب الجمهوري في الانتخابات الأمريكية.
اعتبار خطاب دونالد ترامب بالبسيط هو نوع من السداجة السياسية والانجرار وراء التفسيرات السطحية نظرا لما يحدث من تغييرات وسط المجتمع الأمريكي خاصة في ظل المؤشرات التي تشير الى احتمال فوزه على مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون.
يلقى دونالد ترامب دعما قويا وسط المسيحيين المحافظين، وهو الأغلبية خاصة في العمق الأمريكي في ولايات الجنوب والوسط. وفي الوقت ذاته، يلقى دعما قويا وسط جزء كبير من المحاربين القدامى بل ونسبة من الجيش الأمريكي. كما يلقى دعما وسط جزء من الأمريكيين المعتدلين. ووقف صاحب المقال في زيارة مؤخرا الى الولايات المتحدة على الدعم الذي يصل الى مستوى التصعب لأمريكيين من مختلف الشرائح لدونالد ترامب، ويقولون أن ما يتحدث عنه الأوروبيون كشعوبية يبقى في نظرهم وضوحا في الخطاب وبساطة مرشح مختلف عن الآخرين بقربه من “قلق الأمريكيين”.
ولا تعيش الولايات المتحدة أزمة اقتصادية وبطالة للقول بوقوف عامل البطالة وراء ظاهرة دونالد ترامب كما حدث نسبيا في أوروبا، حيث اليمين القومي المتطرف نتاج الأزمة. فالولايات المتحدة تحقق نموا اقتصاديا مرتفعا والبطالة في أدنى مستوياتها 5% خلال السنة الأخيرة وربما هي البلد الوحيد في العالم الذي عندما تزور مدنه تجد ملصقات في بنوك ومؤسسات تجارية تقول” نحن في حاجة لمستخدمين يمكنك الالتحاق الآن”.
سياسيا واجتماعيا، دونالد ترامب هو امتداد بطريقة أو أخرى لتيار “حزب الشاي” الذي ظهر مؤخرا وسط الحزب الجمهوري مناديا بالحد من الهجرة والاعتماد على الانتاج الوطني بدل الاستيراد. فقد استوحى ترامب مواقفه من هذا التيار بل وبدأ يغازله في الآونة الأخيرة، وعقد لقاءات مع أنصار التيار ليضمن دعمهم الكامل، ويعول عليهم ضمن آخرين في تأسيس حزب ثالث في حالة عدم نجاحه في الفوز بالترشيح النهائي. وقال مخاطبا تيار حزب الشاي “أعضاء تي بارتي رائعون، يحبون وطنهم ويعملون بكل إخلاص وتأتي الصحافة وتسيء لصورتهم”.
وفكريا، تعتبر أطروحات دونالد ترامب الترجمة البسيطة والواضحة لأطروحة المفكر المحافظ سامويل هانغتنغتون في آخر مؤلف له قبل رحيله “من نحن؟” الذي يحذّر من ارتفاع نسبة المكسيكيين والعنصر اللاتيني القادم من أمريكا اللاتينية وسط المجتمع الأمريكي. وإذا كان هذا المفكر الذي ارتبط تاريخيا بالمؤسسات العسكرية قد تحدث عن العدو الخارجي في كتابه “صدام الحضارات” فقد جعل في كتابه “من نحن؟” من المكسيكيين واللاتينيين عموما العدو الداخلي الذي يهدد أسس ما يعتبره “الأمة الأمريكية” القائمة على ركيزة الأنجلوبروتيستانية.
المرادف الآخر لمفهوم الهجرة في خطاب ترامب هو الهوية. فمن خلال انتقاداته للمكسيكيين، ينصّب ترامب نفسه بمثابة “الفارس” المدافع عن القيم الأمريكية الأنجلوسكسونية البروتيستانية البيضاء التي أسست الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر في وجه التقاليد اللاتينية. فالدفاع عن الهوية يعتبر من أكبر التحديات التي تواجهها الإنسانية في القرن الواحد والعشرين بسبب سرعة الاختلاط والتنقل. فتاريخيا، الهوية الاجتماعية والدينية تسببت في حروب طاحنة.
وخطاب ترامب تعدى خطاب الحركات القومية المتطرفة في أوروبا مثل الجبهة الوطنية في فرنسا بزعامة ماري لوبين. ووجه المقارنة هنا هو استبدال المغاربيين في أوروبا بالمكسيكيين في حالة دونالد ترامب. وخلال العقود الأخيرة، كان يجري الحديث عن خطر المهاجرين المسلمين على مجتمعات الاستقبال بسبب ثقافتهم وتقاليدهم المختلفة عن الغرب. لكن في حالة ترامب، يختلف الأمر، لا يتعلق الأمر بخطر تقاليد المسلمين على المجتمع الأمريكي بل بمسيحيين كاثوليك قادمين من الجنوب، المكسيكيين، الذين يتهمهم بعدم الاندماج في المجتمع الأمريكي.
قد ينجح دونالد ترامب في الترشح باسم الحزب الجمهوري، وقد يفشل ويراهن على الترشيح الحر كما فعل التقدمي رالف نادر منذ سنوات. لكن الإشكال الكبير هو أن عشرات الملايين من الأمريكيين يقبلون خطاب ترامب، فهو خطاب يترسخ، كما ترسخت خطابات الحركات القومية المتطرفة مثل الجبهة الوطنية في فرنسا وحركات أخرى في أوروبا.