“الجوار الحذر” عنوان الكتاب الذي وقعه الصحفي المغربي نبيل دريوش حول العلاقات المغربية-الإسبانية، وهو عنوان يعكس الواقع التاريخي والسياسي للعلاقات بين الدولتين اللتين تتقاسمان مضيق جبل طارق لكن القرب الجغرافي لم يساهم في القرب العاطفي والسياسي بقدر ما يعزز الحذر بين الطرفين نتيجة جروح الماضي التي تستمر حتى الآن وتنفجر بين الحين والآخر. ويؤشر وزير الاتصال السابق محمد العربي المساري وأحد أكبر خبراء العلاقات بين المغرب واسبانيا في التقديم على أهمية الكتاب ومعالجته الدقيقة للأحداث التي وقعت منذ بداية القرن الواحد والعشرين بين البلدين.
والكتاب صادر في بداية السنة الجديدة 2015 عن دار النشر سليكي أخوين المغربية، ويتكون من أقسام وفصول متعددة تغطي العلاقات الثنائية خلال العقد والنصف الأول من القرن الواحد والعشرين. ويحدد الكتاب المدة الزمنية في عنوان فرعي “من وفاة الحسن الثاني الى تنحي الملك خوان كارلوس”، وهذا يعني أنها تعالج العلاقات المغربية-الإسبانية في ظل تناوب ثلاثة رؤساء حكومات في لمنكلوا (قصر رئاسة الحكومة في مدريد)، خوسي ماريا أثنار من الحزب الشعبي ثم خوسي لويس رودريغيث سبتيرو من الاشتراكي وحاليا ماريانو راخوي من الحزب الشعبي.
وتحت عنوان “نهاية مرحلة”، يحاول الكاتب تقديم ورسم صورة لمضمون الكتاب الرئيسي، حيث يبدأ برحيل الملك الحسن الثاني في يوليوز 1999، وهو الملك الذي طبع العلاقات الثنائية بطابع خاص منذ بداية الستينات بمعاصرته لنظام ديكتاتوري بزعامة الجنرال فرانسيكو فرانكو حتى سنة 1975 والانتقال الديمقراطية بزعامة ملك شاب وقتها خوان كارلوس الذي تخلى عن العرش السنة الماضية. ويقدم نبيل دريوش الوصفة لفهم لماذا لم يعطي المغرب وقت الحسن الثاني أهمية كبيرة لإسبانيا، ويقول في هذا الصدد “التكوين الفرنكفوني للملك الحسن الثاني جعله ينظر دائما الى اسبانيا على أنها من العالم الثالث، وكل ما يربطها بأوروبا هو الجغرافيا، وكانت نظرته تتجه دائما الى باريس”.
الكاتب يروي كيف أن الود الذي كان بين الحسن الثاني والملك خوان كارلوس وكذلك مع الزعيم الاشتراكي المخضرم فيلبي غونثالث لم يمنع من انفجار مشاكل بين الحين والآخر بين البلدين على خلفية ملفات شائكة بعضها تاريخي مثل السيادة على سبتة ومليلية وموقف اسبانيا الملتبس في نزاع الصحراء وأخيرا ملفات اجتماعية واقتصادية مثل الهجرة والصيد البحري.
بعد استعراض هذه المعطيات التي انتهت بها العلاقات الثنائية في السنة الأخيرة من القرن العشرين، جاء في الفصل المعنون ب “ملك جديد في المغرب وحسابات قديمة في اسبانيا” ضمن القسم الأول ليعتمد التغيير الذي شهده المغرب بوصول الملك محمد السادس الى العرش، حيث أصبحت العلاقات بوجه جديد ومعطيات دولية جديدة لكن الملفات العالقة تفرض نفسها في الأجندة الثنائية بل وستتسبب في أزمات خانقة بين البلدين.
الكتاب يبرز إلمام الملك محمد السادس باللغة الإسبانية عكس أبيه الراحل، الحسن الثاني، كما يبرز معايشة الملك وهو شابا التطورات التي كانت تعرفها اسبانيا للانتقال نحو الديمقراطية. وهذه المعطيات دالة على تفاهم متين، لكن الذي سيحدث كان العكس بسبب حسابات قديمة متمثلة في حضور مشاكل لم تجد طريقا للحل. ويستعرض الكاتب كوكتيل المشاكل التي وقعت وأخطرها نزاع جزيرة ثورة الذي كاد أن يتسبب في حرب مفتوحة بين البلدين في صيف 2002. ويستخلص من الكتاب أنه حتى في غياب مشاكل، تطفو أحداث تجر البلدان الى نوع من التوتر مثلما حدث في قضية الناشطة الصحراوية أميناتو حيدر سنة 2009 عندما طردها المغرب واعتصمت في جزر الكناري ليسود التوتر بين الرباط ومدريد ويتطلب الأمر تدخل من باريس وواشنطن للمساهمة في البحث عن الحل.
والكتاب هو تسلسل زمني للعلاقات الثنائية خلال المدة المذكورة، وتخضع للتغيرات والمعالجة التي تسجلها مواضيع الأجندة الثنائية ارتباطا بتغيير الحزب الحاكم في مدريد بحكم أن الملفات الكبرى في الضفة الجنوبية هي في يد ملك المغرب أكثر من الحكومة. وهذا التغيير، يلمس معه القارئ التغيير الذي يطرأ في الشكل السياسي الذي تتخذه ملفات مشتركة مثل الصيد البحري والهجرة ضمن المواضيع الاجتماعية والاقتصادية. وإن كان الكتاب، يفضح مجالا هاما للملف الترابي الذي يهيمن على هذه العلاقات ويتعلق الأمر بنزاع الصحراء وملف سبتة ومليلية المحتلتين.
وللخروج من الإطار الثنائي للعلاقات، يتطرق الكتاب الى دور فرنسا في التأثير على العلاقات الثنائية بين الرباط ومدريد وخاصة مع رؤساء اليمين مثل جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، كذلك كيف يساهم الاتحاد الأوروبي في وضع إطار لهذه العلاقات بحكم أن بين الملفات مثل الصيد البحري والهجرة تتجاوز مدريد والرباط الى التحاور مباشرة بين الرباط والمفوضية الأوروبية.
وموقف اسبانيا من نزاع الصحراء من المواضيع المحورية في الكتاب، حيث يحاول رصد كل جديد في هذا الموقف بين تفهم من طرف اليسار الاشتراكي وخاصة في حقبة خوسي لويس رودريغيث سبتيرو ما بين 2004-2011، ثم ما يشبه التصلب في موقف اليمين، سواء في عهد خوسي ماريا أثنار الذي كان يتبنى قرارات الأمم المتحدة حرفيا أو حكومة ماريانو راخوي الحالية.
وحول موقف الحكومة الحالية، يلقي الكتاب الضوء على الموقف الحذر جدا لحكومة مدريد، فمن جهة، يشير الى استمرار تأييد اسبانيا لتقرير المصير في نزاع الصحراء، ومن جهة أخرى لا ترغب في الظهور بمظهر عدواني للمغرب. ويكتب في الصفحة 136 وكذلك 137 أن مدريد تقدم تطمينات للمغرب بعدم صدور أي موقف غير ودي عنها ضد مصالح الرباط في نزاع الصحراء، لكنها في الوقت ذاته لا تصل الى تأييد مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب حلا للنزاع حول هذه المنطقة التي تنازعه جبهة البوليساريو بدعم من الجزائر السيادة عليها.
وموقف حكومة الحزب الشعبي من الصحراء، وهو اطمئنان المغرب دون تأييد الحكم الذاتي نابع من حرص مدريد على المحافظة على توازن في علاقاتها مع المغرب والجزائر المؤيدة للبوليساريو، فمدريد تريد التوفيق في سياستها نحو البلدين وليس اللعب على التناقضات والمحاور كما كان الشأن في الماضي.
ويحضر موضوع سبتة ومليلية باستمرار في الكتاب نظرا لطابعه المحوري في العلاقات الثنائية تاريخيا، وعلاوة على المواقف الكلاسيكية المعروفة، يقدم الكاتب في فصل معنون ب “مشكل سبتة ومليلية: أفق الحل” تصورات المسؤولين المغاربة ومنهم وزير الخارجية الأسبق محمد بنعيسى والوزير الأول السابق إدريس جطو ووزير الخارجية السابق سعيد الدين العثميان وكذلك وزير الاتصال السابق محمد العربي المساري، كلها تلتقي في استحالة استمرار اسبانيا في المدينتين، ولكنها تختلف نسبيا في تصورات الحل والمدة الزمنية التي سيستغرقها، ويعترف العثماني بخطئ المغرب عدم التدقيق في هذا الملف بعد استقلال البلاد سنة 1956.
ويخلص نبيل دريوش المضمون والرؤية للعلاقات في الفقرة الأخيرة من الكتاب، حيث يكتب: “لا جدال في أن المغرب واسبانيا حققا قفزة نوعية في مجالات التعاون وعلى صعيد جميع المستويات، لكن بحكم طبيعة الجوار الذي يشبه السكن في منزل واحد، تولد مشاكل والأزمات بشكل دوري حتى تبدو وكأنها جزء من العلاقات، وهي الأزمات التي كلما ازداد تشابك المصالح سهل التحكم فيها، وبالمقابل يبقى وجود قضايا عالقة وفي مقدمتها سبتة ومليلية إحدى العوامل التي تؤدي الى تناقض المصالح الوطنية للبلدين في بعض اللحظات، وتجعل الجوار، مهما تقدم، مشوبا بكثير من التوجس والحذر”.
الكتاب رصد دقيق لواقع العلاقات طيلة العقد الأول النصف الثاني من القرن 21 ومعزز بشهادات هامة، ولعل النقد الذي يمكن توجيهه للمؤلف هو التقصير في الإحالة على أحداث الماضي لتقديم تأطير فكري أعمق لاصطدامات الحاضر بحكم أن العلاقات المغربية-الإسبانية تشهد ملفات عالقة شبيهة ما عليه الوضع العام في العلاقات بين الشرق والغرب.
“الجوار الحذر” كتاب هام هاما للغاية، فهو يأتي ليسد فراغا مهولا في العلاقات الخارجية للمغرب. والمفارقة رغم أن الاتحاد الأوروبي يعتبر الشريك الاقتصادي والسياسي للمغرب، لا تنتج الساحة الفكرية المغربية كتبا ودراسات معمقة حول هذه العلاقات، إذ من الصعب وجود إنتاج مستمر ووفير حول علاقات المغرب بفرنسا مثلا أو علاقات المغرب بمجموع الاتحاد الأوروبي. وغياب هذا الإنتاج يترك العلاقات الخارجية للمغرب أو دبلوماسية الرباط بدون بوصلة تساعدها على فهم التطورات من اجل صنع قرار دبلوماسي أفضل.