بين التاسع عشر والتاسع والعشرين من هذا الشهر من كل سنة تحتاج الجزائر لأن تتوقف مليا عند قصة رئيسين توَلَّيا شؤونها في ظروف خطيرة ووُضع حد لرئاستهما بطريقة شنيعة فيها الكثير من الألم.
لكنها لا تفعل لأنها تعوّدت على التسطيح ورفض التعلم وأخذ العِبر، على ما يبدو.
هما أحمد بن بلة ومحمد بوضياف. كلاهما لم يعد من هذه الدنيا. غادرا إلى الحياة الأخرى تاركيْن وراءهما أجيالا من الجزائريين على ظمئهم الكبير ينتظرون أجوبة على أسئلة طال بقاؤها معلقة.
في التاسع عشر من هذا الشهر سنة 1965 كان الرئيس أحمد بن بلة ضحية انقلاب عسكري قاده وزير دفاعه وأقرب المقربين إليه، الكولونيل هواري بومدين، برفقة زمرة من الرفاق، أحدهم الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة.
انتهى المطاف بالرئيس بن بلة سجينا في عزلة قاتلة تهدُّ الجبال، ومُحيَ اسمه من الوجود الرسمي بلا رحمة ما يزيد عن عشرين سنة.
المفارقة أن بن بلة نفسه جاء بانقلاب نفذته قيادة أركان الجيش ضد الحكومة المؤقتة، وفرضته رئسيا بعد الاستقلال على جثث مئات الجزائريين، وعلى حساب الكثير من رفاق السلاح الذين اغتالهم أو سجنهم أو شرّدهم في المنافي آنئذ ولاحقا.
مع الأسف، طريقة وصول بن بلة إلى الحكم كانت إحدى أدوات تكريس الجيش سيدًا على مصير الجزائريين، وفرضت النمط العسكري على ما دونه في تسيير شؤون الدولة الجزائرية المستقلة. وهو تكريس يدفع الجزائريون ثمنه إلى اليوم.
أما قصة الرئيس محمد بوضياف فتشبه قصة بن بلة في الكثير من التفاصيل وتختلف عنها في النهاية: في شتاء 1992 جاء به ورثة مَن جاؤوا بالرئيس بن بلة، بعد إقناعه بأن البلاد تغرق وبحاجة إليه، ثم اغتاله من جاؤوا به بعد 168 يوما في الرئاسة اكتشفوا خلالها أنهم أخطأوا الاختيار باللجوء إليه (بعد أن رفض الزعيم الآخر حسين آيت أحمد الوقوع في فخ إغراءاتهم).
اغتيل بوضياف برصاص أحد ضباط حراسته في وضح النهار بينما كان يلقي خطابا أمام جمهور كبير في مدينة عنابة بأقصى الشرق الجزائري يوم الإثنين 29 حزيران (يونيو) 1992. منذ تلك اللحظة لم يعرف الجزائريون «لا حقا ولا باطلا» عن ملابسات اغتياله، والأكيد أنهم لن يعرفوا.
مرة أخرى، طريقة وصول بن بلة للرئاسة بُعيد الاستقلال هي التي، بعد 30 سنة، قادت إلى التفكير في بوضياف رئيسا، وهي التي فرضت «إنهاءه» بتلك الطريقة الإجرامية.
اليوم ينادي باحتشام جزائريون من أنصار بن بلة برد الاعتبار له بعد «نصف خطوة» تمثلت في إعادته إلى «الحظيرة السياسية» في 1989 ومنحه فرصة وجود سياسي وإعلامي محتشم، وأيضا دفنه في «جنازة دولة» بعد وفاته في نيسان (ابريل) 2012.
اليوم أيضا يصارع أحباء الرئيس بوضياف من أجل إحياء ذكرى اغتياله كل سنة، فيقاطعهم الإعلام الحكومي وتفرِّقهم الشرطة في مقبرة «العاليا» حيث يرقد جثمانه.
اسم بوضياف ظل ممنوعا في تاريخ الجزائر المستقلة منذ تولي بن بلة الرئاسة ومطاردته بوضياف. واسم بن بلة ظل ممنوعا منذ انقلاب 1965. ثم انتهى المطاف بالاثنين ممنوعين في عهد حكم بومدين وفترة من حكم الشاذلي بن جديد.
حالة الرجلين تشكل قصة إخفاق وتمثل حقيقة ورطة الجزائر مع تاريخها. الرجلان ضحية إجحاف شكّل أحد أبرز تقاليد وأركان الحكم في الجزائري بحيث يُقتل الخصم أو يُنفى ثم يُمحى الخصم سياسيا وإعلاميا ومن المقررات الدراسية. هما ضحية اجتثاث خطير لا يشكل مظلمة لهما فقط، بل لكل المجتمع لأن الرجلين شكلا جزءا من تاريخ الجزائر المعاصرة بآماله وآلامه، ولا يغيّر في الأمر شيئا إن كانت عائلة بوضياف قد يئست من الوصول إلى حقيقة اغتياله فتوقفت عن المحاولة، أو أن عائلة بن بلة اكتفت بما «مُنح» له ولها (على يد بوتفليقة بالخصوص).
ونتيجة هذا الركن الثابت كانت، ولا تزال، عجز الجزائر المزمن عن النظر في المرآة.. عن فتح ملفاتها ثم طيها بحيث لا تبقى عبئا على الأكتاف.
ليست حالتا بن بلة وبوضياف منعزلتين أو شاذتين، بل هناك عناوين اخرى عدة لملفات لا تقل غموضا أثناء الثورة وبعد الاستقلال. والمقلق في الامر ان كل هذه القضايا معلقة ومتروكة عن قصد وعن غير قصد (المصلحة واحدة)، ولا رغبة واضحة في معالجتها.
صحيح ان تاريخ الثورة الجزائرية ومرحلة ما بعد الاستقلال مؤلم، لكن التطرق إليه بشجاعة لن يكون أكثر ألماً من تركه غامضا ومُحاصَراً، مهما كانت الحجج.
ليس مطلوبا من الدولة أن تتدخل كما فعلت في الستينات والسبعينات عندما صاغت التاريخ كما أراده اقوياء تلك الايام فمسحت اسماء عظيمة من الوجود ورفعت إلى السماء اسماء نكرة لا دور لها. المطلوب أن يتشجع الباحثون والمؤرخون وتبدأ فترة من المعالجة التاريخية أقرب ما تكون إلى النزاهة والموضوعية.
أما الدولة بأجهزتها ورجالها فأفضل ما تقدمه أن تبقى بعيدة.
لن يضير ذلك احدا ولن يضر كثيرين لأن الزمن ساعد على تراكم قناعة مفادها أن الأحداث تؤخذ في سياقها وظروفها، وصُنّاع التاريخ يوضعون ضمن السياقات التي جعلتهم يتصرفون بشكل ما دون آخر في واقعة ما دون أخرى.
بن بلة وبوضياف… قصة إخفاق تاريخي في الجزائر/توفيق رباحي
الرئيس بن بلا رفقة الرئيس الذي انقلب عليه هواري بومديين