هدأت الأمور في تونس لكن يفترض ألا يهدأ ما أثارته الأحداث الأخيرة من نقاش، طالما ظل في سياق الجدل المجتمعي والسياسي الناضج.
الحقيقة الساطعة التي لم تعد محل نقاش اليوم في تونس هي أن الثورة التي أطاحت ببن علي قبل خمس سنوات جاءت بمحصول سياسي وفير من الحريات وأساسا حرية التعبير والإعلام ولكن محصولها الاقتصادي والاجتماعي بدا هزيلا جدا إلى درجة تهدد مستقبل البلاد وقدرتها على الانفاق العام مع كل ما حصل من إرهاق لميزانية الدولة بزيادات الرواتب المتلاحقة والاستحقاقات الأمنية لمحاربة الإرهاب في وقت تراجع فيه قطاع السياحة الهام وتعثرت عجلة التنمية ككل وانكماش الاستثمار الداخلي قبل الأجنبي.
الحكومة بائتلافها الرباعي القائم بين أحزاب «نداء تونس» و»النهضة» و»آفاق تونس» و»الاتحاد الوطني» اكتفت إلى حد الآن بالاعتراف بمشروعية مطالب الناس، وهذا جيد، وكذلك بالقول إن الوضع صعب وأنها لا تمتلك عصا سحرية لتغييره، وهذا صحيح، لكن ما يخذلها على تسويق هذا الكلام هو عجزها عن تبسيطه وشرحه للناس، والأهم عجزها عن تقديم تصور ملموس ومفهوم لكيفية الخروج من عنق الزجاجة هذا. الأسوأ من ذلك، أن الحكومة وهي تتوجه بكلامها بالخصوص إلى الفئات الأكثر حرمانا لا تجد غضاضة في أن تبدو خاضعة لابتزاز شرائح أخرى، من حقها طبعا أن تسعى لتحسين أوضاعها، ولكن يفترض أن تكون هي أقدر من المُـــعدم والمحروم على التحمل.
أي رسالة يمكن أن يلتقطها شاب من حاملي الشهادات الجامعية العاطل عن العمل منذ سنوات عندما يرى أن هذه الحكومة نفسها التي تطالبه بالجلد لا تتورع عن تقديم ترضيات هنا وهناك، كأن تراها مثلا تستجيب لمطالب رجال الأمن الذي تظاهروا غاضبين أمام القصر الجمهوري في وقت تحتاج فيه البلاد لتفانيهم في الدفاع عن أمنها واستقرارها قبل دفاعهم عن شيء آخر مهما كانت وجاهته أو إلحاحه… وكذلك عندما يرى هذه الحكومة نفسها ترفع من رواتب موظفين كثر من فئات يفترض أن قدرتها على تحمل صعوبة المرحلة أقوى بكثير ممن ليس لها سوى أن «يقطع من اللحم الحي»… وكذلك عندما يرى هذه الحكومة نفسها تزيد من رواتب الوزراء وامتيازاتهم عما كان معمولا به قبل الثورة، بل ولا تمانع في إبقاء الامتيازات العديدة للرؤساء السابقين وعائلاتهم التي سنها بن علي على مقاسه فإذا بها اليوم لاثنين غيره والثالث على الطريق!!
أما المعارضة فلا تبدو في وضع أفضل إن لم يكن العكس. هي لا تكتفي بتسجيل عثرات الحكومة العديدة، وهذا حقها ودورها بلا جدال، بل تحاول أيضا إيهام الناس بأنها لو كانت هي مكان هذه الحكومة لكان الوضع أفضل بكثير!! هنا المغالطة الكبرى. بعض أحزاب المعارضة وصلت في تنطعها هذا إلى حد التورط في الشعبوية المضحكة التي حولت بالخصوص أحد رموز هذه الأحزاب إلى «شخصية فلكلورية» بأتم معنى الكلمة، فيما سقطت بعض أحزاب أقصى اليسار في مزايدات يفترض أن أي سياسي عاقل تجاوزها من سنوات. وعلى نفس الخط أيضا سارت بعض الأحزاب الدينية المتشددة التي ما زالت تحلم بعودة الخلافة الإسلامية. كما لعب انقسام بعض الأحزاب، ولا سيما «نداء تونس» دورا ما في تأجيج هذا المنحى التي يرمي إلى تسجيل النقاط على الحكومة أكثر من التوصل إلى حلول فعلية وعملية لمشاكل البلاد.
ما يجب أن تدركه الحكومة الآن أن ما حصل من أحداث هو ورقة صفراء فاقعة رفعها الناس في وجهها ولا بد من أخذها بجدية فائقة حتى لا تتكرر، أما بعض المعارضة فعليها إدراك أن الإيديولوجية، يسارا ويمينا، أعجز من أن تحل مشاكل الناس. أما ما يجب أن يدركه الطرفان معا هو أن وعي التونسيين بضرورة عدم الانزلاق إلى مواجهات مفتوحة تهز استقرار البلاد في مناخ إقليمي وعربي عاصف هو ما أنقذ تونس في النهاية… ولكن من يضمن استمرار ذلك إذا لم يوجد ما يوحي بأن الأمور إلى تغيير حقيقي!!؟.
لهذا على الحكومة والمعارضة أن تعترفا معا أن لا أحد قادرا بمفرده على حل مشاكل البلاد الاقتصادية المتكاثرة، وأن استمرار تراجع الدولة أمام المطلبية المفرطة مع تقهقر الانتاج وتفاقم الفساد ينذر بعواقب وخيمة. لا بد من أن يتداعى الجميع إلى حوار واسع لإعداد «خطة إنقاذ اقتصادية وطنية شاملة» ضمن رؤية سياسية واضحة تكون محل توافق وطني وبأيدي خبراء ومختصين في مجالات مختلفة تعج بهم البلاد وليس محترفي رفع الشعارات والكلام المرسل. عدا ذلك، يكون الجميع قد أضاع فرصة الاتعاظ مما جرى. وهذا أخطر بكثير من كل ما حصل.
العبرة من أحداث تونس الأخيرة/ محمد كريشان
أحداث تونس الأخيرة