عادت الأمازيغية إلى واجهة الأحداث في شمال إفريقيا، بعد إقرار السلطات الجزائرية بداية السنة الأمازيغية عيدا وطنيا مؤدى عنه، وتمخض عن ذلك في المغرب، كما هو متوقع سجال، إن على مستوى الحركة الثقافية الأمازيغية، أو حتى على المستوى الرسمي من خلال الإعلام العمومي، من أجل امتصاص غضب الناشطين، أو بمناسبة مناقشة القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية.
لكن هل تُختزل الحركة الأمازيغية في أبعاد ثقافية صرف؟ ألا تخفي شجرة السجال الثقافي غابة السياسة؟ فقد يبدو لكثير من الملاحظين البعيدين عن معمعان الأحداث، أن الحركة الأمازيغية حركة ثقافية، تروم الاعتراف باللغة الأمازيغية وتدريسها، والارتقاء بالثقافة الأمازيغية، والحفاظ على الموروث الثقافي وتثمينه، والاعتناء برموزه، وإعادة قراءة التاريخ، سواء الحديث منه، خاصة ذلك المرتبط بالفترة التي أعقبت الاستقلال، أو الموغل في القدم. وقد يُنظر إلى المطالب الامازيغية على أنها جزء من تدبير التعدد الثقافي، أو لربما حالة من تدبير شؤون الأقليات الثقافية.
والواقع أن النضال من أجل المطالب الثقافية حجب الطابع السياسي لها. التحمت الاتجاهات الأمازيغية ورموزُها، أثناء المعركة من أجل الاستقلال، مع العناصر العربية، بَلْه ذات التوجه العروبي، إلا أن تلك التناقضات المستترة ما لبثت أن برزت بين الاتجاهين، غداة الاستقلال في كل من المغرب والجزائر. ففي المغرب، انتفض حاكم منطقة تافيلالت، الأمازيغي عدي أو بيهي سنة 1957 لِما اعتبره تنميطا أحاديا من قِبل الدولة، وكان مسنودا بعناصر ذات وعي سياسي، ووضع السلاح حقنا للدماء، مقابل «الأمان»، ولم تف السلطة بالتزامها، وحاكمته وتوفي في المستشفى في ظروف غامضة. وانتفضت بعدها منطقة الريف (الأمازيغية) سنة 1958 بقيادة محمد بن سلاّم، وكان ذا توجه عروبي. وسواء بالنسبة لتافيلالت أو الريف فقد ووجهت الانتفاضتان بالقوة من قِبل الجيش. وفي الجزائر، انتفضت منطقة القبائل سنة 1963 وعرفت المصير ذاته من قمع ومواجهة مع الجيش، ودُفع رموزها، ومنهم الحسين آيت أحمد، وهو من القياديين التاريخيين للثورة الجزائرية إلى المنفى.
كانت موازين القوة مختلة لصالح النظامين، وقد خرج البلدان للتو من الاستعمار، وكان يبدو ان داعِمَين للوحدة، مناهضين لمبدأ «فرّقْ تسدْ» المقترن بالاستعمار، ولذلك بدا الخيار الثقافي بديلا لمن كان يحمل راية الأمازيغية. في هذه الظروف نشأت الأكاديمية الأمازيغية في إيكس أو بروفانس بفرنسا من قِبل مثقفين من منطقة القبائل الجزائرية. وفي المغرب نشأت جمعية البحث والتبادل الثقافي، وكان لافتا أنها ظهرت عقب 67، أي بعد هزيمة مصر، واهتزاز الناصرية وتصدع القومية العربية.
ظل الجانب الثقافي هو الأبرز حتى حجب البعد السياسي. لم يأخذ الجانب السياسي في الظهور إلا في أعقاب ما سمي بالربيع العربي، أو ما يُفضل البعض أن يطلق عليه الحراك الديمقراطي، بالأخص مع انتفاضة إقليم أزواد، شمال مالي، والدفع بمطالب سياسية تأرجحت ما بين الانفصال أو الحكم الذاتي. ويمكن أن نقف كذلك عند التفاف المناطق الأمازيغية غرب ليبيا وقواها مع الحركات الأخرى التي أجهزت على نظام القذافي، وحَمْل أبنائها السلاح للتخلص من نظام جثم على أنفاس الليبيين، وقمع البعد الأمازيغي واشتط في ذلك. وأخذ الجانب السياسي يظهر كذلك في منطقة القبائل الجزائرية، من خلال خطاب سياسي واضح المعالم، وتبلور إثرها مع أحداث غرضاية، وما عرفته من اصطدام مع السلطة. تم التعبير عن هذا التحول من خلال رمزية العلم الأمازيغي، ذي الألوان الثلاثة، الأصفر والأخضر والأزرق، الذي يحيل إلى العناصر الثلاثة المكونة للشخصية الأمازيغية، الإنسان والأرض واللغة، أو مكونات الأرض الأمازيغية، أو «تامازغا» (بلاد الأمازيغ). اللون الأزرق الذي يحيل إلى الماء والخصب، والأخضر إلى النبات أو الحياة، والأصفر إلى الأرض أو الصحراء، ويتخللها حرف الزاي (مُفخمة) بالأمازيغية بحروف تيفيناغ، أي أن اللغة هي لحام تلك المكونات.
رفْع العلم في الزاوية أو الزنتان في ليبيا، أو في غرضاية بالجزائر، أو إيكنوينن (جنوب شرق المغرب)، أو كيدال بإقليم أزواد، يعبر عن بعد سياسي أكثر منه ثقافيا.
كان لافتا في المغرب، قبل سنتين بمناسبة أربعينية وفاة ناشط أمازيغي مات مقتولا، المعروف بإزم (الأسد)، تقاطر مناضلون ومثقفون، إلى قرية إيكنيون في منطقة نائية، يصعب الوصول إليها لبعدها عن المركز ووعورة تضاريسها، رفع الأعلام الأمازيغية وصور المقاومين من المغرب (عبدالكريم الخطابي، وعسو باسلام)، والإشادة بروح الحسين آيت أحمد القيادي الجزائري، وقد توفي لشهور معدودة. كان ذلك الجمع في منطقة نائية معزولة، مؤشرا إلى مسار الحركة الأمازيغية في المغرب، مثلما يعبر عن حدود المقاربة الرسمية، أو ما يسميه البعض في شيء من التهكم بـ»السياسة البربرية الجديدة»، إحالة إلى السياسة الاستعمارية الفرنسية في تدبير الأمازيغية.
هذا التحول من الثقافي إلى السياسي، يفضي إلى نتيجتين، الأولى وهي حدود السياسة الرسمية المنتهجة في كل من المغرب والجزائر، فيما يخص تدبير الأمازيغية، وهو الأمر الذي حدا بالسلطات الجزائرية في خطوة استباقية، إلى إجراءات جديدة مواكبة للإعلان عن السنة الأمازيغية عيدا وطنيا. ويمكن أن نضيف في هذا المنحى فشل السلطات المالية في تدبير الوضع في أزاود.
أما النتيجة الثانية، فهي تهم خاصة مثقفي الحركة الأمازيغية، في ظل المخاض الداخلي لبلدانهم والتطورات الإقليمية والتحولات العالمية. هل يستطيعون أن يستمروا في القوالب السابقة التي أفرزتها طبيعة النضال الثقافي؟ أم هل سيُوفّقون على تجاوز تلك القوالب، من أجل بلورة تصور جديد لمجتمعاتهم، بدون تمييز بين الناطقين بالأمازيغية أو غيرهم؟ هل يستطيعون أن ينتقلوا من روابط ذاتية، وقد تكون عرقية أو لسانية، إلى روابط موضوعية، تنبني على قيم ورؤية مستقبلية لمجتمعاتهم ولبلدانهم وللمنطقة؟ هل تستطيع الحركة الأمازيغية ومن يتكلم بلسانها أن تكون إحدى أدوات التحديث والدمقرطة والوحدة داخل كل قطر، ولمنطقة بلاد المغرب كافة، ما يفرض على المتحدثين باسمها خطابا جديدا، بل سلوكا جديدا؟ أم ستنثني في خطاب الخصوصية، ما قد يفرز ردود فعل سواء من لدن السلطات، أو من لدن خصوم الحركة الأمازيغية، ومما لن يفيد في شيء، ويفاقم من الأوضاع ويؤجج التوتر. إلى من يؤول الأمر في نهاية المطاف، للناشطين أم للعقلاء؟
الأمازيغية في شمال إفريقيا /حسن أوريد
حسن أوريد