مهد لأكبر التطورات السياسية والاجتماعية التي ساعدت اليسار على الوصول الى الحكم في مختلف دول أمريكا اللاتينية، إذ لا يمكن فهم وصول قادة من طينة لولا دا سيلفا الى رئاسة البرازيل والراحل هوغو تشافيس الى رئاسة فنزويلا وآخرون في دول المنطقة دون استحضار المنعطف السياسي الذي ساهم فيه القائد ماركوس الذي انسحب هذه الأيام بدون ضجيج وفي صمت من الحياة السياسية، عكس الصخب السياسي والإعلامي الذي رافق ظهوره يوم فاتح يناير من سنة 1994 عندما تزعم ثورة تشياباس في المكسيك.
في اليوم الأول من سنة 1994، تفاجأ العالم بظهور “الجيش الزاباتي للتحرير الوطني” الذي استمد الاسم من القائد المكسيكي التاريخي إيمليو زاباتا. وانبهرت وسائل الاعلام بصورة شاب يمتطي فرسا في أدغال تشياباس جنوب المكسيك ويخفي وجهه بلثام على شاكلة رعاة البقر الذي كانوا يهاجمون البنوك والقطارات. ولكن هذه المرة الأمر مختلف، يتعلق بملثم لا يحمل وينسستير التي كان يحملها اللص الأسطوري جيسي جيمس في الغرب الأمريكي المتوحش بل يحمل بندقية كلاشنكوف، السلاح الرمزي لليسار، ويرغب في لعب دور روبين هود، يريد إعادة الحقوق التي سلبت تاريخيا من السكان الأصليين في المكسيك.
في ذلك اليوم هاجم ثوار التنظيم الجديد بلديات في إقليم تشياباس جنوب البلاد رافعين شعارا مركزيا “ديمقراطية، حرية، استعادة الأراضي، خبز والعدالة للسكان الأصليين”، كانت صرخة ضد ظلم شبيه بما كان يجري في العصور الوسطى. وفي اليوم الموالي، تصدرت صورة ماركوس على الفرس وسائل الاعلام العالمية وأصبحت أيقونة لليسار مثلها مثل صورة تشي غيفارا.
منح ماركوس، واسمه الحقيقي سيسباستيان فيسنتي للحركة بعدا عالميا، فثورته جاءت في بلد، رغم تعدده السياسي، كان يحكمه ومنذ سنة 1929 حزب واحد وهو “الحزب الثوري المؤسساتي” أقرب منه الى مافيا من تشكيلة سياسية. وساهمت قوة ماركوس في التواصل مع وسائل الاعلام في رسم صورة البطل المنقذ لليسار، وتزامنت هذه الثورة وبدء انتشار الإنترنت والبريد الالكتروني، مما ساعد على انتشار إعلامي رهيب. وتعتبر ثورة تشاباس أول من استفادت من الإنترنت سياسيا قبل استفادة الربيع العربي من برامج مثل الفايسبوك ويوتوب.
وتكتب مارتا هونكير في كتابها “اليسار على مشارف القرن 21” أن ثورة تشياباس التي قادها ماركوس جاءت لتمنح اليسار توجها جديدا كان له أبلغ الأثر في مسيرة يسار أمريكا اللاتينية خلال السنوات اللاحقة، فقد رفعت هذه الثورة شعار تصحيح الأوضاع الاجتماعية والسياسية ونهاية الفساد السياسي، ورغم حملها السلاح لم تستعمله لغزو السلطة وتقديم نفسها بديلا سياسيا بعد لردع هذه السلطة عن أي اعتداء. استراتيجية ماركوس جعلت الساكنة الأصلية حاضرة في قلب المعادلة الاقتصادية والسياسية في المكسيك، ولاحقا في مجموع أمريكا اللاتينية بعدمكا حدثت “انتفاضة السكان الأصليين”.
لم يعّد ماركوس للسياسة رومانسيتها فقط بل أعاد الأمل لليسار، وتزامنت الثورة التي قادها مع فترة هزيمة قاسية تعرض لها اليسار في أمريكا اللاتينية بعد انهيار جدار برلين حيث تخلى عن السلاح دون حصوله على الحق في مشاركة سياسية في تسيير شؤون دول المنطقة ووقف عاجزا عن زحف نيوليبرالية في القارة. وزاد من مرارة هزيمة هذا اليسار خسارة الجبهة السندينية الانتخابات في نيكاراغوا سنة 1990، وهي الثورة التي كانت تعتبر بمثابة كوبا الثانية.
في السنة الموالية للثورة، 1995، اجتمع الكثير من اليساريين من أوروبا وأمريكا اللاتينية في تشاباس تكريما للثورة وقائدها ماركوس، ولكن كذلك لبحث مستقبل اليسار في أمريكا اللاتيني. وانتهى المطاف بأحزاب أمريكا اللاتينية اليسارية الى جعل ثورة تشياباس منعطفا نحو الوصول الى السلطة بطرق سلمية عبر إقامة يسار سياسي في ثوب اجتماعي يدافع عن “الخبز والسكان الأصليين والعدالة الاجتماعية”.
فرغم أن بعض الأحزاب كانت موجودة قبل هذه الثورة مثل حزب العمال البرازيلي إلا أن ثورة تشياباس منحت للأحزاب وقيادييها نفسا جديدا وثقة في المستقبل. وكانت الثورة التي مهدت لأسماء لاحقة مثل الرئيس البرازيلي المخضرم دا سيلفا والرئيس الثائر تشابيس والرئيس من السكان الأصليين إيفور موراليس في بوليفيا.
وظل ماركوس طيلة العشرين سنة الأخيرة منكبا على مشاكل السكان الأصليين ورفض دخول معترك السياسة التقليدية كما رفض لقاء قادة أمريكا اللاتينية ومنهم هوغو تشافيس. في حوار من الحوارات الناذرة التي أجريت معه، يقول للصحفية المكسيكية لاورا كاستيانوس عندما سألته عما حققته ثورته “السكان الأصليين في تشياباس لم يعودوا يعانون من الجوع، ويعيشون في كرامة، ويدرك الجميع أنهم سيحملون السلاح للدفاع عن أراضيهم إذا تعرضوا لاعتداء، كل هذا لم يكن في الماضي”.
منذ أسبوعين أعلن انسحابه نهائيا من الحياة السياسية ومن الجيش الزاباتي للتحرير الوطني، ينسحب بعدما أشعل ثورة في منطقة جغرافية محدودة، جنوب المكسيك، تحولت لاحقا الى منعطف في أمريكا اللاتينية، وكانت أول صرخة حقيقية في العالم ضد العولمة ونيوليبرالية.