تشهد إفريقيا زيارات لمسؤولي القوى الكبرى تهدف الى كسب ود دولها وتعرض عليها برامج سياسية واقتصادية. وتأتي هذه الزيارات في ظل التطورات الجارية في العالم وبدء القارة السمراء احتلال موقع جيوسياسي يتسم نوعا ما بالاستقلالية وكذلك بسبب مواردها الطبيعية.
وخلال الأسبوعين الأخيرين، شهدت القارة الإفريقية زيارة مسؤولين من الدول الكبرى، غير أن ثلاثة منهم استرعوا الانتباه بسبب الخطاب السياسي الواضح، ويتعلق الأمر بزيارة وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف ثم زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وأخيرا زيارة وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن خلال الأسبوع الجاري.
ولم يتردد المسؤولون الثلاثة في التأكيد على أن الهدف من هذه الزيارات هو تخليص دول القارة من “الغزو الدبلوماسي والاقتصادي للآخر”. فقد دشن لافروف هذا التنافس حول القارة بعد تشديده على ضرورة مواجهة الغرب الاستعماري والجرائم التي ارتكبها ثم استمراره في محاولة السيطرة على القارة. واستعاد لافروف إرث الاتحاد السوفياتي السابق في القارة الذي وقف الى جانب حركات التحرر وليس بناء الديمقراطية، متعهدا بدعم استقلالية القارة.
وحمل ماكرون خطاب العلاقات التاريخية بين باريس وهذه القارة، علما أنه تاريخ مليئ بالدماء والفساد، ويحاول ماكرون استعادة النفوذ الفرنسي في قارة ترى في فرنسا عرقلة لمساعيها نحو التطور.
ويشدد بلينكن على خطاب مضاد للصين وروسيا محذرا من خطرهما على مستقبل القارة، غير أن عميد الدبلوماسية الأمريكية لم يوضح هل ستتعامل بلاده مع دول القارة مثلما تعاملت مع كوريا الجنوبية واليابان من خلال تشجيع حقيقي للديمقراطية ومشاريع استثمار حقيقية، أم فقط دعم مؤقت في انتظار ما ستسفر عنه المواجهة مع الصين. ولا تتخوف واشنطن من موسكو بل من بكين بسبب قوتها التجارية واستثماراتها.
والواقع أن لا واحد من الثلاثة يحمل ما يمكن اعتباره “الخير الحقيقي ” للدول الإفريقية بل كل هذه الزيارات مشروطة بما يترتب عن الحرب الروسية ضد أوكرانيا التي بدأت تمهد لعالم جديد، وبالتالي تبحث الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين ودول تريد البقاء ضمن الكبار مثل فرنسا على استقطاب دول إفريقية لصفها.
وكشفت الحرب الروسية ضد أوكرانيا الثقل السياسي للدول الإفريقية، حيث نددت في بعض الأحيان بالغزو الروسي لأوكرانيا، وفي تصويت آخر في الأمم المتحدة تحفظت أو غابت عن التصويت. وهذا جعل موسكو تدرك مدى أهمية الصوت الإفريقي، كما جعل واشنطن تدرك الأمر نفسه. وعلاقة بواشنطن، فقد كان الكونغرس الأمريكي قد عقد خلال مارس/آذار الماضي جلسة خاصة مع قادة القوات الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم” لبحث خطورة الصين وروسيا في القارة الإفريقية على ضوء نوعية التصويت الإفريقي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث امتنعت عدد من الدول على إدانة روسيا.
في الوقت ذاته، يأتي تهافت الدول الكبرى على إفريقيا نظرا لكونها تعد خزانا حقيقيا للموارد الطبيعية من الغذاء الى الطاقة ثم المعادن النادرة التي تستعمل وستستعمل أكثر في الصناعات مثل الحواسيب وسيارات الكهرباء.
لقد بدأت أنظمة في القارة الإفريقية تدرك مدى أهميتها في الساحة الدولية، وهو شعور مشابه للذي حصل في منطقة أمريكا اللاتينية والتي بدورها تعد مسرحا للتهافت بين القوى الكبرى، غير أن غالبية هذه الدول اللاتينية لم تنجر الى أي سيناريو جيوسياسي بقدر ما تعزز من استقلاليتها.
إن تهافت الدول الكبرى على القارة السمراء حاليا، ورغم اختلاف السياق التاريخي، هو شبيه بتهافتها عليها خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين عندما “مزقتها” أطرافا لإقامة دوليات تخدم مصالحها الاستعمارية، وعاشت شعوب القارة ما يفوق الجرائم ضد الإنسانية بسبب ما ارتكبته فرنسا من تقتيل وكذلك بعض الدول مثل بلجيكا في الكونغو، حيث قتلت قوات الملك ليوبولد الثاني أكثر من مليون من الكونغوليين في الضيعات التي كان يستغلها. وتعد هذه من أكبر الجرائم في التاريخ التي يلفها الصمت. وتستمر القارة في المعاناة من التقسيم الاستعماري الذي فرض عليها، وهو ما يفسر الحروب الأهلية والإثنية التي سادت في المنطقة خلال الخمسة عقود الأخيرة.
تواجه القارة الإفريقية هذا التهافت عليها منقسمة رغم أنها تنضوي تحت لواء الاتحاد الإفريقي، حيث يوجد نوعان من الدول، نوع مازالت طبقته السياسية فاسدة ومستعد للتحالف مع الشركات الغربية قبل الدول الغربية، وقسم يرغب في تحقيق نوع من الاستقلالية في فرض أجندة خاصة بالقارة السمراء في المنتظم الدولي. وهذا الأخير يمزج بين استقلالية القرار وكذلك بالرهان على روسيا والصين بحكم عدم تدخل بكين وموسكو في رسم السياسات الداخلية للدول بل تراهنان وخاصة الصين على معادلة المساهمة في التنمية مقابل الثروات الطبيعية وخاصة الطاقة والمعادن النادرة.
تهافت الدول الكبرى على القارة السمراء سيترجم عبر عودة المواجهات، حيث ستعمل كل دولة على تغذية الصراعات، ومن هذه المناطق التي قد تشهد صراعات كبرى الآن ومستقبلا منطقة الساحل. فخروج فرنسا من منطقة الساحل يتم تعويضه اقتصاديا بالصين أساسا وعسكريا بروسيا، وهذا لا يعني الرفاهية والاستقرار بل استمرار المواجهات.
لا يمتلك الاتحاد الإفريقي التجربة الكافية مثل الاتحاد الأوروبي لصياغة أجندة عمل لصالح شعوب القارة، إذ لا تعد كل الدول ديمقراطية، كما أنها لا تمتلك كلها قرارها الاستراتيجي بحكم أن الفقر يدفعها الى التحالف مع هذه الدول أو تلك.