«ما خفي كان أعظم»، عنوان برنامج قناة «الجزيرة» الذي يلقي الضوء على أحداث مهمة شهدها العالم العربي، تغوص وقائعها بين الحقيقة والغموض إلى مستوى الأسطورة، ومنها الحلقة الأخيرة حول حركة جهيمان العتيبي، التي اقتحمت الحرم المكي وتسببت في قتل الآلاف. وما زالت عائلة آل سعود الحاكمة تقدم بشأنها روايات تغليط، وتقليل من شأن الحدث، على الرغم من أن هذه العملية تدرس في مختلف مدارس إعداد قوات التدخل الخاص.
وحركة جهيمان هي تلك التي وقعت في مراسيم حج سنة 1979 بعدما جرى احتجاز عشرات الآلاف من حجاج بيت الله الحرام، وإعلان حركة المهدي الجديدة، للإطاحة بحكم عائلة آل سعود، وإعلان الخلافة في العالم العربي والإسلامي. وفي تصريح لبرنامج «الجزيرة» يقول الملازم كريستيان لامبرت أحد المشاركين في التدخل، أنه يجري فقط تقديم الحد الأدنى من المعلومات حتى الآن حول الدور الفرنسي.
ومرد هذا الصمت هو التعهد الذي يلتزم به المشاركون في العمليات الخاصة الاستخباراتية، وترك القرار للدولة للكشف عن المعلومات، ضمن استراتيجيتها في الكشف عن الأرشيف، أو التزام الصمت الأبدي تفاديا للمشاكل. وكم هي الملفات الكثيرة التي تخضع للصمت الأبدي، ومنها في العلاقات الدولية أكثر من العلاقات الداخلية للأمم. بعد سيطرة قوات جهيمان على الحرم المكي، لم يكن الهم الرئيسي لآل سعود هو إنقاذ الحجاج، فحياة هؤلاء كانت وقتها ثانوية ولا تهمهم كثيرا، ويكفي رؤية عدد الضحايا سنويا وكيف يتم التعامل مع جثث القتلى، بل كان الهدف هو: إنقاذ حكم آل سعود من الانهيار، وخوفا من ثورة عارمة في البلاد، وهل الحركة متوغلة في الحرس الوطني وباقي القوات أم لا، ثم كيفية القضاء على المتمردين، من دون الاستعانة بقوات دولة أجنبية، خاصة دولة مسيحية حتى لا يقال إن «المسيحيين هبوا لإنقاذ الحرمين الشريفين». وفكرت القيادة السعودية في البدء باللجوء إلى دول إسلامية لتشارك في إنهاء التمرد داخل الحرم وهي، باكستان ومصر والمغرب والأردن، وكانت هذه الدول تتوفر على قوات ذات تدريب مقبول بمعايير تلك الفترة التاريخية، لكنها لم تكن في مستوى التعامل مع حدث مثل اقتحام الحرم المكي، الذي يفرض هيبة خاصة ولم تكن تتوفر على التجهيزات الكافية. وجرى استبعاد الاعتماد على القوات الأمريكية، لأن هذا البلد لم يكن يتوفر على قوات رفيعة المستوى، عكس ما يحدث الآن مع القوات الخاصة لمختلف الشُعب العسكرية والاستخبارات، كما جرى اتهام واشنطن بالوقوف وراء عملية الاقتحام، ما أدى الى الهجوم على سفارتيها في باكستان وليبيا. وبالتالي كان الرهان على بريطانيا، التي لديها أحسن قوات خاصة في العالم، أو فرنسا، وكان اختيار الأخيرة. ولعب الملك الراحل الحسن الثاني دورا مهما في مخاطبة الفرنسيين عبر الجنرال أحمد الدليمي، ثم مدير الدرك الملكي حسني بنسليمان، فالحسن الثاني كان عراب علاقات أنظمة الخليج مع فرنسا.
وعلاقة بهذا، ومن أسرار هذه العملية، هي نسبة مشاركة المغاربة والأردنيين ضمن القوات التي اقتحمت الحرم لتحرير الرهان من الاحتجاز، ووضع حد للتمرد. ويؤكد الفرنسي باريل، الذي أشرف على التدخل، أن القوات السعودية كانت ضعيفة التكوين والتدريب. ويستنتج من هذا الكلام الصعوبة بمكان تنفيذ عملية اقتحام بقوات غير مدربة، ولا يمكن تدريبها في ظرف أسبوع أو أسبوعين. ويكفي أنه بعد مرور عقود، يجد الجيش السعودي، رغم ميزانيته الهائلة الآن، صعوبة في مواجهة حركة غير منظمة، مثل الحوثيين ويستعين بقوات جوية وبرية من دول أخرى.
ولا تعتبر المشاركة الفرنسية سرا، بل السر في نوعية المشاركة، وهو ما كشف عنه برنامج «الجزيرة» من خلال استجواب بول باريل المشرف على العملية، وهو إنجاز إعلامي مهم، لأنه مصدر رئيسي للمعلومات. وقد ألف باريل مجموعة من الكتب حول السياسة الدولية، ودوره في الكثير من الملفات خاصة في افريقيا وتأسيسه لخلية مكافحة الإرهاب في قصر الرئاسية الفرنسية، وفضائح الرئيس ميتران بالتنصت على السياسيين، لكن لم يكتب عن دوره في أزمة رهائن مكة، بسبب حساسية الموضوع، رغم أنه «الابن العاق» للمؤسسة الأمنية الفرنسية، بسبب ما تسبب فيه من أزمات.
ومن ضمن المعطيات التي يتم الكشف عنها لأول مرة من طرف ألف بوست هو وضع قنابل الغاز في عجلات السيارات والشاحنات وتوجيهها نحو الأقبية لخنق المهاجمين، ومعهم الحجاج الذين كان عددهم قرابة 50 ألفا. وتحسبا لأي تطور مفاجئ بشأن مشاركة قوات مسيحية في تحرير الحرم المكي، اعتنق بول باريل، وباقي أفراد الدرك الفرنسي الأربعة الإسلام، حتى يقال إن مسلمين شاركوا في التحرير. وتتحدث جريدة «لوباريسيان بتاريخ 14 إبريل/نيسان 2007 عن هذا المعطى في مقال بعنوان «الاعتناق المفاجئ للكابتن باريل للإسلام». وكانت أول وسيلة إعلام انفردت بالحديث عن المشاركة الفرنسية في تحرير الرهائن هي «لوكوتديان دو باريس» يوم 14 يناير/كانون الثاني 1980، وهو ما شكل مفاجأة كبرى. وبعد أسبوعين، وبالضبط يوم 28 يناير نشرت مجلة «لوبوان» معطيات دقيقة حول الدور الفرنسي، وكشفت عن أن نسبة الضحايا تجاوزت الخمسة آلاف قتيل. وأحدثت هذه الأخبار ضجة محدودة، ولم يتفاعل العالم الإسلامي كثيرا معها لسببين، الأول، ضعف الأخبار، حيث كانت الصحافة في العالم العربي تحت مراقبة شديدة، وتعاملت الأنظمة بحساسية شديدة، خوفا من ردة فعل الشارع بشأن سقوط نسبة عالمية عالية من المسلمين قتلى، بل حتى فرنسا طوقت الأخبار، والسبب الثاني لم تكن هناك وسائل التواصل الاجتماعي لتجاوز المراقبة.
وبعد مرور 40 سنة على الحادث، تستمر السعودية في تغليط الرأي العام، وتقديم معطيات خاطئة ومنها، الادعاء بمقتل 135 شخصا فقط أغلبهم من المتمردين حتى لا تحمل مسؤولية مقتل الآلاف من الحجاج، حيث كانت أكبر مجزرة لتدخل لتحرير الرهائن بعد الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الراهن. وأمام التغليط السعودي، يبقى التعليق هو: ومتى كانت السعودية تقول الحقيقة؟