استقبل وزير الدفاع الأرجنتيني خورخي تاتيانا خلال الأسبوع الجاري وفدا صينيا رفيع المستوى لبحث تعزيز التعاون العسكري بين البلدين، وهذه واحدة من الزيارات الكثيرة للمنطقة تبرز وتظهر مدى رهان الصين على علاقات عسكرية متميزة مع منطقة أمريكا اللاتينية لتعزيز ريادتها للعالم مستقبلا. وهذا التوجه يقلق كثيرا الولايات المتحدة التي تعاني مسبقا من التسلل العسكري الروسي.
وطرحت الصين في هذا الاجتماع على المسؤولين في الأرجنتين تحديث مختلف أنظمة العتاد العسكري وخاصة المساعدة في صناعة الذخيرة الموحدة لمختلف دول المنطقة. ولا تنافس الصين بشكل كبير كل من الولايات المتحدة وروسيا في مبيعات الأسلحة لدول المنطقة، غير أنها بدأت ترفع من مبيعاتها بشكل تدريجي وتنهج استراتيجية ذكية وهي تلبية الحاجيات الحقيقية في قطاع الدفاع لدول أمريكا اللاتينية، ونقل التكنولوجيا ولو المتوسطة مثل صناعة العربات العسكرية وأساسا الذخيرة الحربية مثل الاجتماع المذكور علاوة على الطائرات المسيرة وبعض السفن الحربية.
وتبحث مختلف جيوش المنطقة تحديث ترسانتها الجوية الحربية من الطائرات الأمريكية والفرنسية والروسية (بل السوفياتية) القديمة، وتجد شروطا شبه تعجيزية من هذه الدول خاصة الغربية منها. ومن ضمن الأمثلة، تعارض بريطانيا بيع الولايات المتحدة مقاتلات إف 16 الى الأرجنتين بسبب النزاع البريطاني-الأرجنتيني حول جزر المالوين (الفوكلاند) الذي كان مصدر حرب سنة 1982. وتعارض واشنطن كل عملية بيع لمقاتلات بريطانية أو فرنسية أو سويدية (غرينبين) لعدد من دول أمريكا اللاتينية وخاصة المكسيك. هذا البلد الأخير، لا يمتلك قوة جوية باستثناء طائرات قديمة من نوع ميراج لا تتعدى أربع طائرات. وبدورها تمتلك الأرجنتين أسطولا جويا من الميراج قديم لم تستطع اقتناء مقاتلات منذ أكثر من عشرين سنة، وهي الآن قد تراهن، وفق جريدة إكتريمو سور اللاتينية مؤخرا، على شراء مقاتلة صينية من نوع FC-1 وهي نسخة تقريبا مطابقة للمقاتلة الصينية-الباكستانية JF-17 Thunder Block II. وإذا نجحت الصين في بيع هذه المقاتلات اللأرجنتين، وقتها ستكتسح سوق أمريكا اللاتينية، مما سيشكل تحديا حقيقيا للولايات المتحدة. ونجحت الصين في عقد صفقات هامة مع فنزويلا ثم بوليفيا والإكوادور، غير أن الرهان الكبير يبقى على البرازيل والأرجنتين والمكسيك، نظرا لثقل هذه الدول في المنطقة كقوى إقليمية ورغبة الصين في التصنيع المشترك معها. وفي الوقت ذاته، التشيلي التي تعتبر دولة قريبة جدا من الولايات المتحدة، اقتنت عتادا عسكريا صينيا مثل الطائرات المروحية وبعض الصواريخ، وتريد تطوير منظومة الاتصالات في صناعة مشتركة مع الشركات العسكرية الصينية.
ويبرز لورو هورتا وهو باحث في مجال الدفاع العسكري حول منطقة الهادي بنهج الجيش الشعبي الصيني استراتيجية خطوة وراء خطوة ولكن بتباث كبير ودون تسرع لربح ثقة الجيوش العسكرية في أمريكا اللاتينية. ومن ضمن الرهانات الكبرى وهو بدء الصين تكوين ضباط من أمريكا اللاتينية في مدارسها العسكرية. ويعد تكوين الضباط من ضمن مفاتيح التأثير العسكري الحقيقي. فهو من جهة، يعني تعزيز النفوذ العسكري للضباط الذين يعودون إلى بلادهم، ومن جهة أخرى، تولي هؤلاء الضباط مناصب عليا في الجيش تحسم في صفقات الأسلحة، وغالبا ما تكون لصالح الدول التي قامت بتكوينهم.
ويخضع التصور الصيني في تعزيز التعاون العسكري الى عاملين، الأول وهو أن الصين تتحول الى قوة تجارية كبرى، الأولى في العالم، وبالتالي تحتاج للتعاون العسكري لحماية الطرق التجارية سواء البحرية أو البرية، وتعد الصين الشريك الاقتصادي الأول لأمريكا الجنوبية. ويتجلى العامل الثاني في أن صفقات الأسلحة يترتب عنها تطورات جيوسياسية كبيرة أبرزها تعزيز النفوذ وكسب حلفاء للمستقبل.
وحتى الأمس القريب، كانت الولايات المتحدة تبدي تخوفا كبيرا من التغلغل العسكري الروسي في المنطقة، وهو تغلغل يشكل استعادة للنفوذ السوفياتي في الماضي، وفي السنوات الأخيرة، تتخوف واشنطن من استراتيجية الصين العسكرية في أمريكا اللاتينية، وهي منطقة تم وصفها بالحديقة الخلفية للأمريكيين منذ إرساء عقيدة مونرو في العشرينات من القرن التاسع عشر. وترى واشنطن الخطر الصيني أكبر من الخطر الروسي في مجال التعاون العسكري وذلك لثلاثة أسباب ، وهما:
في المقام الأول، الصين تستجيب للأساسيات في الحاجيات العسكرية لدول أمريكا اللاتينية، ولا تتردد في نقل بعض تكنولوجيا التصنيع مثل الذخيرة. الصين لا تبيع أسلحتها بشروط مثلما يعمل الغرب.
في المقام الثاني، كما تفعل في تمويلها للبنيات التحتية في أمريكا اللاتينية وباقي العالم، أي تقديم قروض مغربية سواء على مستوى الفوائج المنخفضة أو مدة طويلة للتسديد، تنهج بكين الاستراتيجية نفسها بتقديم قروض لتمويل صفقات الأسلحة مستفيدة من الأموال المترتبة عن فائضها المالي الكبير. وهذه الاستراتيجية ستسمح للصين بتوقيع صفقات عسكرية كبيرة مستقبلا لتكون بديلا عن الدول التي تحتكر سوق أمريكا اللاتينية في مجال صفقات الأسلحة. وقد جربت بكين هذه الاستراتيجية مع فنزويلا منذ سنوات ونجحت وكذلك مع الأوروغواي وبوليفيا.
في المقام الثالث، تدرك واشنطن رغبة دول أمريكا اللاتينية في تعزيز استقلاليتها العسكرية والسياسية عن البيت الأبيض خاصة الدول الكبرى مثل المكسيك والبرازيل والأرجنتين نسبيا، علاوة على الحديث عن دول يسارية مثل فنزويلا، ولهذا ستقبل على التعاون العسكري مع الصين في إطار البحث عن التوازن وتعزيز الاستقلالية.
ويبرز ملف أمريكا اللاتينية هذا، كيف أصبحت الولايات المتحدة في موقف دفاع لتحصين نفوذها في مختلف مناطق العالم مثل إفريقيا وآسيا علاوة على أمريكا اللاتينية أمام التوسع الصيني الهادئ، وهذا ينهك دبلوماسية واقتصاد واشنطن بشكل يفوق الحرب الباردة مع الاتحاد السوفاتي، لأن الصين تمتلك القوة الاقتصادية، وهو ما لا تمتلكه موسكو.