نشغل العالم خلال الأيام الأخيرة بعملية تسريب وثائق البنتاغون، وهي ليست المرة الأولى وربما لن تكون الأخيرة، وتبقى أهمية هذه الوثائق هو الاعتراف بمعطيات دقيقة حول واقع الحرب الروسية ضد أوكرانيا عكس عما تقدمه وسائل الاعلام الكلاسيكية.
في البدء، ما تسرب حتى الآن من هذه الوثائق يبرز كيف تعاني الولايات المتحدة من حماية وثائقها السرية خاصة خلال الأزمات. إذ أن اطلاع ضابط محدود الرتبة ومازال شابا ولا يشتغل بشكل رسمي ودائم في قسم التحليل الاستراتيجي للمؤسسات العسكرية يبرز “الثقوب الاستخباراتية” لاسيما وأن الوثائق متعددة المصادر ولا تعود لجهة واحدة. وكان الاعتقاد السائد أن قضية سنودن ستكون الفاصل.
هذه الوثائق جاءت لتبرز الواقع الحقيقي للحرب التي أعلنتها روسيا ضد أوكرانيا بعيدا عن عملية التغليط الإعلامي الذي تتولاه لجنة من الاستخبارات الغربية التي تخوض حربا إعلامية ونفسية حقيقية ضد موسكو ونسبيا ضد بكين، كما أن هاذين البلدين بدورهما يشنان حرب كرد فعل وكمبادرة للهجوم. إذ أنه إلى جانب تجريب أسلحة متطورة في هذه الحرب مثل النسخ الجديدة من جافلين وهيمارس (صنع أمريكي) ضد أهداف روسية، وتجربة الجيش الروسي أسلحة مثل الصواريخ فرط صوتية ضد أهداف أوكرانية، توجد حرب إعلامية تستعمل آخر تكنولوجيا الاتصال لربح تعاطف الرأي العام العالمي. خاصة وسط وجود إجماع على إعادة تشكيل هذه الحرب خريطة التحالفات الدولية.
ومن ضمن ما كشفت عنه هذه المعطيات هو كيف أن هذه الوثائق كانت تجول في منتديات الإنترنت منذ قرابة شهرين دون أن يوليها الصحفيون أهمية حتى صدر تحذير من البنتاغون حول تسريبها وخطورة مضمونها على سير العمليات الحربية وعلاقات واشنطن بدول حليفة. وعلاقة بهذه الحرب، كشفت معطيات هامة للغاية، ناذرا ما تعرب عنها جهات غربية مثل الحلف الأطلسي أو القيادة العسكرية الأمريكية بنوع من الاحتشام باستثناء خلال الأيام الأخيرة. وعلى رأس هذه المعطيات نجد:
في المقام الأول، رغم تراجع حدة الهجمات الجوية الروسية ضد أهداف أوكرانية، فقد تراجع مخزون أوكرانيا من منظومة الدفاع الجوي وهي في الغالب من الحقبة السوفياتية، مما سيجعل الأهداف الحساسة في أوكرانيا هدفا سهلا أكثر أمام الهجمات الروسية مستقبلا. وهذا يبرز استراتيجية الاستنزاف الذي طبقته روسيا على العتاد العسكري الأوكراني والغربي. إذ فقدت أوكرانيا كل مبادرة لشن هجوم كبير ضد شرق أوكرانيا وضج شبه جزيرة القرم. وكانت كييف وعواصم الغرب تتحدث طيلة يناير وفبراير الماضيين عن هجوم ساحق مرتقب للقوات الأوكرانية ضد الجيش الروسي لطرده من المناطق المذكورة. وتأتي هذه الوثائق تكملة لتصريح رئيس الأركان العسكرية المشتركة الأمريكية الجنرال مايك ميلي الذي صرح للمنبر الرقمي المتخصص في القضايا العسكرية “ديفانس وان” نهاية الشهر الماضي أن هجوم أوكراني مضاد على القوات الروسية في إقليم دونباس والقرم ضعيف للغاية. وعليه، يتبين أن الهجوم الأوكراني الكبير هو مجرد حرب نفسية في محاولة للتأثير على القوات الروسية.
في المقام الثاني، صعوبة تمويل الغرب لأوكرانيا بنسبة عالية من أنظمة الدفاع، وهذا سيزيد من تراجع قوة الجيش الأوكراني للدفاع عن المناطق الغربية للبلاد في حالة إذا قررت موسكو الهجوم المكثف على المناطق الغربية المحاذية لبولندا.
في المقام الثالث، وجود قوات خاصة واستخبارات تابعة للدول الغربية والحلف الأطلسي، وهذا يضع الغرب في موقف حرج لاسيما وأن موسكو تستغل الوثائق بخطاب بروباغاندا قوي للتأكيد على أنها تواجه الحلف الأطلسي وليس فقط تقديم الغرب للعتاد العسكري.
يقول الجنرال الفرنسي المتقاعد باتريك ديتارت في تصريحات لقناة التلفزيون إل سي إي بداية هذا الأسبوع الجاري في تعليقه على الوثائق أن “الصحافة الغربية ومنها نيويورك تايمز ما كان عليها نشر المعلومات الدقيقة مثل نفاذ مضادات الطيران الأوكرانية ابتداء من 23 مايو المقبل كما جاء في وثيقة البنتاغون”. غير أنه كشف عن أهم معطى في تأويل الوثائق بقوله أن الطيران الروسي عموما حتى الآن لا يطبق استراتيجية الأرض المحروقة بضرب كل البنيات التحتية الأوكرانية والدعم اللوجيستي بل يعتمد الدفاع، أي وقف بعض الهجمات الأوكرانية أكثر من الهجوم. وهذا يبرز الاستراتيجية الروسية الواضحة التي تتجلى في ضم شرق أوكرانيا والدفاع عنه دون التقدم نحو العاصمة الأوكرانية كييف أو المناطق الغربية المتاخمة لبولندا.
منذ بدء الحرب، تبلورت ملامحها النهائية هو التدمير التدريجي لأوكرانيا إذا استمرت سنة، ويكفي أن هذا البلد فقد ما يفوق مائة ألف كلم مربع، وفقد بنيات تحتية استراتيجية في الصناعة المدنية والحربية وتراجع اقتصاده بأكثر من النصف، وسيحتاج الى أكثر من مائة مليار لإعادة بناء ما جرى تدميره.
في المقابل، تقدم الرواية الغربية جرعات لخلق الأمل ومنها المعجزات العسكرية التي ستحصل مع الوصول المرتقب لمنظومة الدفاع الأمريكية باتريوت وكذلك الدبابات الغربية مثل ليوبارد وأبرامس وفرضية تسليم مقاتلات إف 16 بهدف شن الهجوم الأوكراني الكبير. ويعلق الجنرال الفرنسي ومدير المدرسة الحربية سابقا فانسان ديسبورت “جرى الحديث كثيرا عن الهجوم الأوكراني المضاد ليتبين أنه غير ممكن، وها هي وثائق البنتاغون تؤكد ذلك”.
وهكذا، بعد أسابيع من الترويج للهجوم المضاد لطرد الروس، ها هي الدول الغربية وابتداء من الخميس من الأسبوع الجاري كلها تشكك في قدرة أوكرانيا على تنفيذ هذه العملية العسكرية، بينما هذه الرواية كانت غربية أكثر منها أوكرانية.