هناك فكرة سارية مفادها أن الإمارات العربية المتحدة هي من يتزعم قوى المحافظة في العالم العربي، وأنها العقل المدبر لها، من خلال أدوات القوى الناعمة المرئية وغير المرئية، في الإعلام ومراكز البحث، وشبكة واسعة من ضمن أصحاب القرار والنفوذ في العالم العربي. في ذلك جزء من الحقيقة، وليس كل الحقيقة، فليست تلك القوة إلا صدى صوت كان خفيا، ولم يعد يتم التستر عنه وهو إسرائيل وأدواتها الأكاديمية والإعلامية، فضلا عن الاستخباراتية، وهي أدوات على قدر كبير من المهنية، أغلبها يوجد في الولايات المتحدة، ولذلك ما يسمى بإرهاصات التطبيع ما بين البلدين مخالف للحقيقة، بل هو تطابق شن وطبقة.
في ربيع سنة 1995 كتب توماس فريدمان مقالا في «نيويورك تايمز» اعتمد فيها على الذاكرة، كان مما قاله، إن الصهيونية اشتغلت على الإنسان اليهودي لتصنع منه شخصا آخر، محاربا ومزارعا، على خلاف الصورة النمطية التي اقترنت باليهودي، الذي لم يكن يحترف الزراعة ولا يحارب، ونجحت الصهيونية في خلق يهودي جديد. أما ما سماه بالصهيونية الجديدة، فتجعل غايتها صياغة عربي جديد، من خلال قولبة العالم العربي، عبر مداخل ثلاثة، هي وضع الأقليات الدينية والعرقية، ووضع المرأة، والصحافة، والهدف من ذلك أن يقبل العالم العربي بإسرائيل وبوضعها.
ولا جدال بأن وضع العالم العربي حينها، وإلى الآن، هو عدم الاعتراف بالتنوع العقدي والثقافي، ويتضايق منه، أو يلتف حوله. ولا جدال بأن وضع المرأة، رغم الجهد القانوني الذي بُذل، يشكو من عراقيل ثقافية واجتماعية. ولا جدال بأن الصحافة بما هي مرآة لحرية التعبير والتفكير، تعاني إلى الآن تضييقا في العالم العربي بشتى الوسائل، ومنها ما يتعرض له الصحافيون من تضييق ومتابعات ومحاكمات بادعاءات واهية أو سيريالية، والعالم العربي بعدم تصديه لهذه الأدواء يُسوغّ تدخل القوى الأجنبية، وطبعا ما كان تتوخاه الصهيونية الجديدة ليس التعدد الثقافي ولا حرية التعبير، ولا الارتقاء بحقوق المرأة، ولكن الاشتغال على مداخل تضعف العالم العربي وتنال من سيادة الدول العربية. ويمكن لأيّ كان أن يرصد، في أعقاب «مسلسل السلام» قبل عشرين سنة ونيف، الاختراقات التي عرفتها الصحافة، والزيارات التي يقوم بها الصحافيون من العالم العربي، خاصة من الجزائر والمغرب إلى إسرائيل، ويمكن الوقوف كذلك على الدراسات والأبحاث والمراكز التي تشتغل على «الأقليات»، وهو تعبير غير دقيق، ولا ينطبق على واقع العالم الإسلامي، فهل يسوغ أن نقول عن الأقباط إنهم أقلية في مصر، بينما هم سكان مصر أصلا، وهل يمكن أن نتحدث عن الأمازيغ في البلدان المغاربية باعتبارهم أقلية، رغم ما حصل من تزاوج واختلاط يعسر عليه الحديث عن أقلية.
عد 11 سبتمبر وجد المحافظون الجدد مسوغا من أجل قولبة الشرق الأوسط الكبير، حسب تعبيرهم، «من مراكش إلى بنغلاديش»، وكان مما كتبه توماس فريدمان حينها، أن الولايات المتحدة كانت تنظر إلى السعودية كمحطة بنزين، ولذلك كان مخاطبها وزير البترول، ولكنها باعتبارها حاضنة للتطرف، فمحدثها ينبغي أن يكون، والحالة هذه، وزير التربية الوطنية والمؤسسات الدينية. وكان من الضروري صياغة مخيال جديد، وبدأت الولايات المتحدة تعمل من خلال نتائج مراكز بحث على قولبة المخيال في العالم العربي، من قبيل معهد أمريكان أونتربرايز، وكاتو، وراند، ومؤسسة هيرتج ومعهد واشنطن، و»تنصح» فيما ينبغي أن يكون عليه الخطاب الديني، وتكوين القيمين عليه، وعلى المقررات المدرسية، مع تتبع دقيق لما يُنشر في العالم العربي ويُبث فيه.
ثم انفجر الربيع العربي، ولم تتورع إسرائيل والقوى القريبة منها عن التعبير عن تخوفها، منذ ذاك الحين لم تعد القوى المحافظة تخفي علاقتها، بل تواطأها مع إسرائيل. كانت القوى المحافظة تتجند لاحتواء الدينامية المجتمعية، التي تريد أن تجهز على الوضع القائم، ومن الطريف أنها كانت تستعمل التعبير ذاته «الهجير العربي»، الذي كانت تستعمله إسرائيل، ولم يكن شغل إسرائيل الشاغل، كما عبر الإسرائيليون بوضوح، أن تتمقرط مصر، ولكن أن تحترم اتفاقية كامب ديفيد. والتقت القوى المحافظة وإسرائيل في كراهيتها لإيران. كانت قبلها تسلك ما يمكن أن نسميه بالواقعية السياسية، أو النفاق عل الأصح، لكن ذلك انهار تماما مع الوضع الذي أفرزه سياق»الربيع العربي»، ولم تعد القوى المحافظة تتورع عن مجاهرة إيران بالعداء والارتباط خلسة أو جهارا مع إسرائيل.
كان هناك تطابق بين رؤى إسرائيل والأنظمة المحافظة، حول ضرورة التصدي للإسلام السياسي ولإيران، وكانت إسرائيل هي العقل المدبر لاحتواء الدينامية التي يعرفها العالم العربي. ولذلك لا يجدي من منظوري التجني على الواجهة، ولكن التوجه إلى المصدر، والمصدر، أي إسرائيل، على قدر كبير من المهنية والاحترافية، ويستند فضلا عن الأدوات الاستخباراتية، إلى جيش من الخبراء، وعلى الأدوات الإعلامية، وشبكات واسعة، ظاهرة وباطنة، ولها قدرة كبيرة على الإيذاء، وتحريك ما تسميه بالقنابل الموقوتة، منها ما اشتعلت ومنها ما هو قابل للاشتعال. لا يمكن طبعا الاستهانة بما راكمت الإمارات من شبكة واسعة في العالم العربي وخارجه، وعلى مراكز بحث متقدمة، وأدوات استخباراتية ناجعة، تتطابق في توجهاتها وأدواتها مع إسرائيل.
من منظور التاريخ فإن القوى التي تصمد هي تلك التي تسير في اتجاه التاريخ، والتي تسير في اتجاه التاريخ هي التي تعانق دينامية الشعوب، ولذلك لا أقدّر على المدى الطويل، أن تنجح عملية احتواء الدينامية الداخلية في العالم العربي، لا من قِبل المصدر، ولا من صداه من القوى المحافظة، أما التي تمشي ضد توجه التاريخ، فيمكنها أن تكسب معارك، ولكنها لا يمكن أن تكسب الحرب. لكن هذا لا يعفي من ضرورة التصدي للمداخل التي ينفذ منها الآخر، من حرية التعبير، وحرية المعتقد، والتنوع الثقافي، وضرورة الارتقاء بمراكز البحث والجامعة.