تحتفل شعوب شمال افريقيا هذا الأسبوع، برأس السنة الأمازيغية، من سيوة المصرية إلى جزر الكناري، مرورا بليبيا، تونس، الجزائر والمغرب. مناسبة شعبية تكثر حولها الأساطير والإحالات التاريخية المتنوعة، من حالة وطنية إلى أخرى، لتُجمع على الاحتفال الشعبي بها كمناسبة وطنية في كل شبه القارة الشمال افريقية، في علاقة واضحة مع النشاط الزراعي لهذه الشعوب المتوسطية، حتى وهي تصر على العودة إلى الأساطير الشعبية المتداولة لربط الاحتفال بأحداث تاريخية أخرى محددة، تكون قد عاشتها المنطقة، ليس هناك اتفاق حولها بالضرورة، كما هو حال تربع شيشناق الأمازيغي، على عرش مصر.
احتفال لم يأخذ طابعه الرسمي إلا في حالة واحدة لحد الآن: الجزائر، حيث يتم توقيف العمل الرسمي خلاله، وهو ما يطالب به المغاربة بقوة منذ سنوات. مطلب يمكن أن يتحقق على المدى القريب، مسايرة لمنطق ثقافة التنافس ـ الإيجابي هذه المرة – السائدة بين البلدين على أكثر من صعيد. احتفالات لا تقتصر على المناطق الناطقة بالأمازيغية، وتأخذ أشكالا متعددة يشارك فيها الكبير والصغير، المرأة والرجل، ما يجعلها عيدا وطنيا فعليا، لم يفقد حيويته مع الوقت، لا ينتظر إلا تعميم هذا الاعتراف الرسمي به من قبل الدولة الوطنية، كما حصل في الجزائر.
الدولة الوطنية، التي تطالبها الشعوب بأكثر من هذا الاعتراف الرمزي بالعيد الوطني الأمازيغي، في هذه المرحلة التاريخية التي وصلها هذا المطلب الشعبي، الذي حاربته لعقود هذه الدولة الوطنية بالذات، ونخبها المختلفة، سواء تعلق الأمر بالنخب العروبية التي كانت في حالة صعود، منذ فترة ما قبل الاستقلال، أو النخب الإسلامية المتأثرة بالفكر القومي العروبي، كما كان حال المدرسة الإخوانية المتأثرة بمنبتها المشرقي.
النخب الوطنية، التي قادت الصراع ضد الاستعمار وبنت الدولة الوطنية حاربت بشراسة كبيرة هي الأخرى المطلب الأمازيغي والنخب المدافعة عنه، فقد رأت في المطلب الامازيغي تهديدا للوحدة الوطنية، بل مشروعا استعماريا لكسر التجانس الثقافي واللغوي لهذه المجتمعات، حديثة العهد بالاستقلال. عداء للمطلب الامازيغي والنخب المدافعة عنه تبنته لاحقا – جزئيا على الأقل – النخب اليسارية ذاتها، المتشبعة بالقراءة اليعقوبية للحالة السياسية الوطنية، حتى عندما تكون في الغالب من أصول أمازيغية واضحة، على غرار الكثير من النخب الوطنية التي تصدرت المشهد السياسي بعد الاستقلال. اختلف الوضع بالطبع بعد القطيعة مع مرحلة الإنكار هذه التي عاشها المطلب الأمازيغي لعقود، للدخول في مرحلة الاعتراف التي تعيشها الحالة المغاربية بتفاوت كبير من حالة وطنية لأخرى، منذ أكثر من عقد كامل، عبر عنه الاعتراف الدستوري باللغة الأمازيغية لغة وطنية في المغرب 2011. وقبلها في الجزائر حين اعترف الدستور بها بالتدريج لغة وطنية منذ 2002. قبل أن يمنحها التعديل الدستوري لسنة 2016 وضعا دستوريا أكثر وضوحا كلغة وطنية ورسمية. في انتظار الحالة التونسية التي ما زالت تعاني من تبعات ضعفها الديموغرافي، الذي لم يثنِ الحالة الليبية المضطربة سياسيا وأمنيا من تحقيق الكثير من الإنجازات، حتى لو كان ذلك بعيدا عن التوافق الوطني وفي غياب الدولة الوطنية الراعية والممثلة له.
مرحلة الاعتراف المتفاوت التي يعيشها المطلب الأمازيغي، التي ترفع تحديات كبيرة أمام النخب المدافعة عن الأمازيغية، وأمام الدولة الوطنية ذاتها، في كل المنطقة المغاربية، لا تقتصر على العمل الثقافي الجدي حول موضوع اللغة الأمازيغية وحروف كتابتها ونشرها داخل فضائها الوطني، بما فيه المناطق التي اختفت فيه كلغة من التعامل اليومي، تجسيدا لما يشعر به المواطن الأمازيغي في هذه المنطقة، بأنه مواطن كامل الحقوق، وليس أقلية إثنية وعرقية، حتى لو تحول إلى أقلية لغوية. مرحلة لم يعد التعويل واردا فيها على الأم والفضاء الأسري الضيق، بل على مؤسسات الدولة الوطنية، وعلى رأسها المدرسة والإعلام والإدارة العمومية، وغيرها من مؤسسات المجتمع والدولة الحديثة. مرحلة جديدة لن يعود فيها الموطن المغاربي، يتخوف فيها من القطيعة مع لغته الأمازيغية، وهو يدخل المدينة أو يتزوج من خارج جهته ـ وهو الاتجاه السائد مغاربيا ـ أو يهاجر من منطقته الأصلية، لأن الدولة الوطنية بمؤسساتها تكون قادرة على التكفل بتعليم الأمازيغية والدفاع عنها وطنيا كثقافة مجتمعية واحدة وموحدة.
هذا التحدي يفترض العمل عليه بالتعاون مع كل مكونات المجتمع لتحقيقه، في جو من الانسجام، حتى لا يدخل في صراع مع المقومات الأخرى، كالعربية والإسلام. دور يجب أن تضطلع به النخب بكل مكوناتها ومشاربها الفكرية، على المستوى الوطني، رغم المسؤوليات الخاصة التي تملكها النخب المدافعة عن المطلب الأمازيغي، لتجاوز الطرح الجهوي ـ المناطقي، بكل تبعاته وتجلياته الثقافية واللغوية القائمة حتى الآن، كمسألة كتابة الحرف الامازيغي وحتى اللغة الامازيغية التي ما زال فيها الأمازيغي المزابي لا يفهم كليا القبايلي أو الترقي في البلد نفسه. ولا يكتب بالحروف نفسها لغته الامازيغية ذات الأصل الواحد، إذا اكتفينا فقط بالمثال الجزائري. قضايا يفترض أن تتبناها خلال مرحلة الاعتراف هذه التي تعيشها المنطقة المغاربية، مؤسسات الدولة الوطنية ذاتها في كل دولة على حدة وبين دولها مجتمعة. يمكن أن ينطلق من داخل المؤسسات الثقافية والفكرية التي بادرت بخلقها الدولة الوطنية في الجزائر والمغرب كحالات وطنية رائدة في مجال الدفاع عن الثقافة واللغة الامازيغية لتستفيد منها كل شعوب المنطقة الأخرى. مشروع لن يكتمل إلا في إطاره السياسي، عندما تتحول مرحلة الاعتراف هذه بالبعد الأمازيغي كأرضية متينة إضافية لبناء المشروع المغاربي الموحد، الذي فشلت النخب الوطنية بمختلف مشاربها الفكرية، وعلى رأسها نخب الدولة الوطنية في بنائه خلال فترة ما بعد الاستقلال. مشروع يمكن أن تكون إحدى دعائمه القوية الجديدة، الأمازيغية كلغة وثقافة مشتركة بين أبناء المنطقة المغاربية. زيادة على ما هو متوفر من دعائم أخرى فكرية وسياسية كنتاج تاريخي طويل لهذه الشعوب، على غرار الإسلام والعربية. مشروع يمكن أن تستفيد منه حتى شعوب أخرى في المنطقة العربية، وهي ترى أن التنوع الثقافي والتواصل مع المخزون الثقافي واللغوي التاريخي للشعوب، كما يتجسد في احتفالات رأس السنة الأمازيغية في كل المنطقة المغاربية، هو عامل وحدة وتجانس أكثر، وليس مشروع تفتيت وانكسار وطني في مرحلة التشظي هذه التي يراد لنا أن نعيشها كشعوب ودول.