تعيش فرنسا وضعا دبلوماسيا صعبا في علاقاتها الخارجية نتيجة التوتر الذي اندلع مع تركيا، وهذا يؤثر على صورتها ويطرح تساؤلات عن مدى صلابة مخططاتها المستقبلية ومنها زعامة الاتحاد الأوروبي عسكريا. وتشير أصابع الاتهام أو تحميل مسؤولية التقصير الذي تشهده وزارة الخارجية والاستخبارات المكلفة بالملفات الخارجية نتيجة غياب التكهن بمسار التطورات مع أنقرة. وهذا السيناريو شبيه بما شهدته باريس عند اندلاع الربيع العربي، حيث اعترف رؤساء الاستخبارات ومسؤولو الخارجية بأنهم تفاجأوا بذلك الحدث الكبير.
وتعيش العلاقات التركية-الفرنسية توترا منذ سنوات ولاسيما في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي بسبب ما يشبه الفيتو على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وإن كانت العلاقات الثنائية قد تراجعت حدتها مع الرئيس فرانسوا أولاند إلا أنها ستعود لتسجل توترا حقيقيا مع حقبة الرئيس إيمانويل ماكرون لتنتقل إلى ما يمكن اعتباره المنعطف في هذه العلاقات، حيث ستحتاج إلى مجهود كبير للترميم مستقبلا.
وتوجد فرنسا بدون خريطة طريق في التعامل مع التوتر الذي اندلع بينها وبين تركيا حول ملفات شائكة في شرق البحر الأبيض المتوسط وهي ليبيا والتنقيب عن الغاز في مياه المنطقة مع اندلاع التوتر مع اليونان، وهو التوتر الذي انحازت فيه باريس إلى أثينا ضد أنقرة. وانتقل التوتر الدبلوماسي إلى الاستعراض العسكري ويتمثل في نقطتين رئيسيتين وهما: تهديد فرقاطة تركية لنظيرتها الفرنسية قبالة المياه الليبية عندما خرقت أنقرة تصدير السلاح إلى حكومة الوفاق، وحدث هذا خلال حزيران/يونيو الماضي. ثم مراقبة سفن حربية والالتصاق بفرقاطة فرنسية حاولت الاقتراب من المياه التي تنقب فيها تركيا عن النفط. وتنضاف نقطة أخرى وهي الحرب الكلامية الشديدة بين الطرفين وإن كانت قديمة نسبيا ولكنها عادت بقوة خلال الشهرين الأخيرين.
ويتفاجأ الفرنسيون بحدة الموقف التركي وهو ما أعربت عنه عدد من وسائل الإعلام الفرنسية خلال الأسابيع الأخيرة، حيث ذهب محللون إلى التساؤل عن غياب رؤية براغماتية من طرف قصر الإليزيه في التعاطي مع الملف التركي. ومن ضمن الانتقادات التي صدرت في هذا الشأن، تلك التي انتقدت الرئيس إيمانويل ماكرون بسبب رسمه خطوطا حمراء لتركيا في النزاع الحالي في وقت يعرف أنه من الصعب قيام باريس برد فعل إذا اخترقت تركيا الخطوط الحمراء، وعمليا قد اخترقتها. وكان الجنرال ديديي كاسترس الذي تولى حتى عام 2011 إدارة قيادة التخطيط للعمليات في القيادة العليا للجيش الفرنسي، قد صرح الأسبوع الماضي للصحافة أنه “من الأحسن عدم التعهد برسم خطوط حمراء حتى لا يتم التراجع عنها لاحقا” وهذا ما يحدث حاليا بعدما بدأت فرنسا تقلل من لغة التوتر.
ويتزامن التوتر الحالي بين تركيا وفرنسا في وقت ترغب فيه هذه الأخيرة تولي القوة العسكرية الأولى في الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد ضمن ما يعرف بـ “بريكسيت” وتخطط إلى التحول إلى القوة المرجعية في البحر الأبيض المتوسط. لكن السيناريو الفرنسي لم يكتمل ولم يكتب له النجاح حتى الآن بسبب الاصطدام مع تركيا.
وفي هذه الحالة، يتم توجيه أصابع اللوم والاتهام بالتقصير إلى الاستخبارات الخارجية الفرنسية “الإدارة العامة للأمن الخارجي” التي يديرها الدبلوماسي برنار إيمي، وإلى وزارة الخارجية وكذلك الدفاع، فهي المؤسسات الثلاث التي تساهم بشكل كبير في صنع قرار الرئاسة بما توفره من معلومات وتحاليل ومقترحات العمل الاستراتيجي.
وفشل هذه المؤسسات الثلاث وخاصة الاستخبارات الخارجية يحيل على فشلها في التكهن في اندلاع الربيع العربي، حيث كانت فرنسا أياما قليلة قبل انهيار نظام زين العابدين بن علي تزكيه وتتعهد بمساعدته للقضاء على ما اعتبرته أعمال شغب، لتتفاجأ لاحقا باندلاع ثورة تسببت في أكبر انتفاضة في العالم العربي بعد مسلسل استقلال الدول العربية-الأمازيغية ما بين الأربعينيات وبداية الستينيات. واعترف المسؤولون الفرنسيون بالفشل في التكهن في اندلاع الربيع العربي. ومنذ ذلك الفشل ونظرا لتسارع الأحداث في العالم وخاصة مناطق نفوذ فرنسا، عمدت الدبلوماسية والاستخبارات الفرنسية على تشذيب أطرها وتغيير منهجيتها في رؤية القضايا الدولية.
وتأتي تطورات تركيا لتؤكد مجددا: إما فشل الاستخبارات والدبلوماسية وحتى المؤسسة العسكرية في قراءة صحيحة للأحداث، أو إصرار رئاسة فرنسا، رغم توصلها لخريطة طريق توصي بالحذر، على الاستمرار في سياسة تحدي تركيا في شرق المتوسط وفي الملف الليبي بدل الرهان على الحوار. ورغم ترجيح الفرضية الأولى أو الثانية، فباريس إما لم تقم بتقييم براغماتي للعناصر التالية أو وعت بذلك ورغبت في الاستمرار في التحدي كاستراتيجية ردع لعل وعسى تنجح في مسعاها. وأخذا بعين الاعتبار الفرضيتين،
في المقام الأول، فشل باريس في إقناع الاتحاد الأوروبي بضرورة التحرك في ملف الموارد الطاقية في شرق البحر المتوسط، إذ تراه عدد من الدول ومنها ألمانيا بمثابة برميل بارود قد يؤدي إلى نزاعات تفوق بكثير أي مردود اقتصادي، كما أن الغاز المأمول العثور عليه لن يعوض الغاز الروسي والجزائري والقطري والأمريكي.
في المقام الثاني، وارتباطا بالأول، لا ترغب الدول الأوروبية في تعميق الخلاف مع دولة استراتيجية مثل تركيا، حيث المبادلات التجارية بين الطرفين تقترب من 140 مليار يورو سنويا. وكل عداء مع تركيا سيزيد من نفوذ الصين وروسيا وسيضعف أكثر الاتحاد الأوروبي.
في المقام الثالث، فشلت باريس في جر الولايات المتحدة إلى صفها، وهذا يحدث للمرة الثانية في ظرف ثلاثة أشهر، الأولى في الملف الليبي والثانية في ملف الغاز واليونان. إذ ترغب واشنطن في بيع الغاز إلى أوروبا، ولا يصب في صالحها العثور على موارد الغاز في مياه يفترض أنها أوروبية. في الوقت ذاته، تدرك احتمال رد فعل قوي من طرف أنقرة قد يحرم الحلف الأطلسي من قاعدة إنجرليك التركية في حال إذا ما شعر الرئيس طيب رجب اردوغان بتكالب الغرب ضده.
في المقام الرابع، استراتيجية الهجوم التي تنهجها تركيا في الملفات الدولية خلال السنوات الأخيرة، ولعل المنعطف الأبرز هو إسقاطها طائرة روسية من نوع سوخوي 24 في الأجواء التركية-السورية، واقتناءها للصواريخ المضادة للطيران إس 400 الروسية رغم اعتراض الولايات المتحدة الشديد ومنعها من اقتناء مقاتلات ف 35. وهذه القرارات العسكرية هي مؤشر قوي ودال للغاية بالتوجه الجديد لتركيا في الدفاع عن مصالحها.
في المقام الخامس، قرار تركيا البحث عن مصادر الطاقة لتمويل تطلعاتها الاقتصادية الجديدة بما في ذلك التمرد على الاتفاقيات حول الحدود البحرية التي تعتبرها مجحفة في حقها ووقعت عليها في زمن ضعف خلال تفكيك الإمبراطورية العثمانية.
ويبقى المرجح هو ضعف قراءة الدبلوماسية والاستخبارات الفرنسية للمدى الذي قد تصله تركيا في الدفاع عما تعتبره مصالح قومية لا غنى عنها ولو تطلب الأمر تكسير الخطوط التقليدية المتحكمة في العلاقات الدولية.