في ظل تراكم الأخبار بسرعة وكثافة، بسبب توفر المادة الإعلامية بفضل التقدم التكنولوجي في نقل الأخبار، يحدث أحيانا أن تمر بعض الأحداث وبعض التصريحات من دون اهتمام كبير. ويحدث هذا على الرغم من أنها تكون ذات أهمية قصوى ودالة على تطورات مقبلة، وهذا ما يحدث مع تصريحات كيريل بودانوف رئيس إدارة الاستخبارات العسكرية في أوكرانيا عندما قال، من دون تردد، «أوكرانيا قد تندثر إذا لم يحصل السلام». تصريحات تبرز مآل هذا الملف، الذي يشكل أبرز الأحداث في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين.
ومنذ مطلع السنة الجارية، تميز هذا المسؤول العسكري بتصريحات مثيرة للجدل حول مسار ومآل الحرب، يرى فيها البعض ضرباً من مساندة العدو، غير أنها في جوهرها تعكس نضجاً براغماتياً، يهدف إلى تهيئة الرأي العام الأوكراني والطبقة السياسية لفكرة ضرورة التضحية من أجل الحفاظ على كيان الدولة الأوكرانية. وهو ما بدأ يحدث الآن، بدءاً بضرورة التخلي عن أراض شرق البلاد لروسيا مقابل السلام، للحفاظ على بلد اسمه أوكرانيا.
وهكذا، قال للبرلمانيين في بداية السنة الجارية في اجتماع مغلق، إن أوكرانيا قد تتوقف عن الوجود، إذا لم تبدأ محادثات السلام مع روسيا بحلول الصيف. وعاد ليكرر التحذير نفسه ولكن هذه المرة علانية وبشكل مثير، فخلال 2 أغسطس/آب الجاري، وفي مقابلة مطولة مع الصحافية ناتاليا موسيتشوك، في برنامجها «موسيتشوك +» في قناة «1+1» الأوكرانية، قدم بودانوف أحد أكثر تقييماته قتامة بشأن مسار الصراع، وكان لها وقع جرس الإنذار، في بلد اعتاد على سماع وعود النصر الحتمي. يقول «أنا أجمع الطوابع، أنا من هواة جمع الطوابع… العديد من البلدان التي أدرس طوابعها لم تعد موجودة.. لذا نحتاج إلى التفكير بجدية في ما نفعله، وإلى أين نحتاج أن نذهب. يجب أن نحدد ذلك بوضوح لأنفسنا، وإلا، فقد تصبح (أوكرانيا) موضوع الطابع البريدي التالي». هذا التحذير المليء بالرمزية التاريخية، لخصه في جملة أخرى بقوله «قد تتوقف أوكرانيا عن الوجود كدولة إذا لم يتمكن المجتمع الأوكراني من تحديد أهدافه واستراتيجيته، على المدى الطويل بوضوح». المسؤول نفسه، كان قد قال في لقاء أوروبي في يالطا، خلال سبتمبر/أيلول الماضي أن روسيا تعتزم تحقيق النصر النهائي في هذه الحرب سنة 2026. وعمليا، كل انتصار روسي يعني فرض موسكو لشروط قاسية ستمس وحدة أوكرانيا.
تصريحات بودانوف تلتقي مع رؤية جناح كبير في الإدارة الأمريكية السابقة والحالية. وكان قائد القوات الأمريكي السابق الجنرال مارك ميلي، قد صرح نهاية سنة 2022 بأنه من الصعب الانتصار على روسيا، وجاء هذا التصريح في وقت كانت فيه وسائل الإعلام الغربية تتحدث عن تقهقر روسي وسقوط عشرات الآلاف من القتلى في صفوف القوات الروسية، وكان ميلي يدرك قوة الآلة العسكرية الروسية وضعف الأوكرانية والأوروبية. فرضية اندثار أوكرانيا التي يحذر منها كيريل بودانوفن ليست بالفرضية المستبعدة وغير القابلة للحدوث، لقد عشنا خلال العقود الأخيرة تفكك دول وظهور أخرى. وفي القارة الأوروبية نفسها، شهد العالم منذ نهاية الثمانينيات تفكك الاتحاد السوفييتي وظهور دول جديدة تفوق العشر دول، وتفكك يوغوسلافيا الى دويلات في مسلسل دموي شهد جرائم ضد الإنسانية في البوسنة والهرسك، وانقسمت تشيكوسلوفاكيا الى دولتين واندثرت دولة كانت تسمى ألمانيا الشرقية وانضمت الى الغربية لتصبح المانيا الموحدة، وهو ما حدث لفيدرالية صربيا والجبل الأسود منذ عقدين فقط. وإذا عدنا الى المئة سنة الأخيرة في أوروبا، لم يعد للإمبراطورية النمساوية – المجرية من وجود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سوى في كتب التاريخ، وانفصلت إيرلندا عن بريطانيا سنة 1922، وقد تحدث انقسامات أخرى مثل حالة أسكتلندا في المملكة المتحدة وحالة كتالونيا في إسبانيا.
قبل بداية الحرب في فبراير/شباط 2022، ارتفعت في أوكرانيا أصوات عاقلة تنادي بضرورة التفاهم وتغليب منطق الحوار مع روسيا، باعتبارها قوة نووية وعالمية لا يمكن خوض حرب مباشرة معها، وبضرورة منح سكان إقليم دونباس حقوقهم الثقافية والسياسية، في إطار حكم ذاتي موسَّع بدل المواجهة العسكرية معهم منذ 2014، إذ لا ننسى أن المواجهات كانت أقرب إلى الحرب الأهلية في شرق أوكرانيا ـ لم تتوقف منذ 2014 الى اندلاع الحرب مع روسيا. غير أنّ التيار القومي المتشدّد في كييف كان يطالب بسحق هذه الأقليات، واعتبارها طابوراً خامساً. وكانت النتيجة مؤلمة؛ إذ خسرت البلاد خُمس أراضيها وخُمس سكانها منذ اندلاع الحرب سنة 2022 تنضاف الى خسارة شبه جزيرة القرم سنة 2014. وتجد أوكرانيا نفسها اليوم وقد فقدت نصف بنيتها التحتية، وجزءاً كبيراً من شبابها، وقسماً مهماً من قواتها العسكرية، فيما تراجع اقتصادها بما يقارب النصف. أمّا الأخطر، فهو أنّ إعادة الإعمار لن تتم عبر منحٍ، بل من خلال قروض ستُثقل كاهل الدولة لعقود مقبلة طويلة.
يحدث أن تصل الى السلطة نخبة فاقدة للنضج السياسي الكافي لتسيير بلد، ويسيطر الغرور على هذه النخبة باعتقادها لعب دور في الساحة الدولية، لاسيما بين الأقطاب الكبرى، لكنها لا تراعي التوازنات الجيوسياسية الدقيقة، وتنجر إلى حرب بتغرير من قوى أجنبية، وتكون النتيجة كارثية. إنها حالة أوكرانيا التي امتنعت عن منح الحكم الذاتي لأقليم دونباس، وتطور الأمر الى حرب مفتوحة ضد روسيا، وإن كانت الأخيرة هي التي بدأت الهجوم للدفاع عن الأوكران الروس في شرق البلاد. بدل الحكم الذاتي، تقبل القيادة الأوكرانية الآن بالتخلي عن خمس البلاد مقابل السلام، وبعد مغادرة خمس ساكنة البلاد نحو أوروبا والولايات المتحدة. استمرار الحرب ضد روسيا قد يجعل من أوكرانيا مجرد طابع بريدي لأنها ستستنزف قدراتها وستظهر ربما حركات انفصالية أخرى. عندما يبدأ مسلسل انهيار دولة ما لا يتوقف عند المحطة الأولى بل يستمر.