حدثت السترات الصفراء رجة سياسية حقيقية في فرنسا م ترقى الى مايو 68 ولكنها تنبيه حقيقي للطبقة السياسية الحاكمة، وتهدد بنقل العدوى الى باقي أوروبا لاسيما وأن دول أوروبية تعيش ظروفا مثل الشعب الفرنسي أو أسوأ. ، وهذه الحركة تطرح ثلاث تحديات: الأول هو كيف نجحت في وقت وجيز في بناء حركة شعبية قوية تهدد الجمهورية الثانية؟ ويتجلى التحدي الثاني في هل السترات الصفراء تستوجب إعادة النظر في النموذج الديمقراطي المعمول به في الغرب؟ وأخيرا هل ستبحث فرنسا عن حلول قد تمتد الى مستعمراتها السابقة، كما فعلت في الماضي؟
واندلعت ظاهرة السترات الصفراء منذ شهر تقريبا وقد تستمر في ظل غياب حلول جذرية للمشاكل. وحملت شعارات بسيطة وواضحة وهي تحسين مستوى عيش الشعب الفرنسي في ظل تفاقم الشرخ الطبقي بين فئة غنية وهي قليلة وتتمتع بخيرات البلاد وفئة فقيرة وهي عرضية وتزداد حجما. وهي حركة لا تخضع لتوجيهات أي حزب سياسي ولا تتحكم فيها أي نقابة، ويصعب تصنيفها بحركة المجتمع المدني المحض لأنها تحولت الى فاعل سياسي وازن وأجبرت الرئيس الفرنسي ماكرون على توجيه خطاب الى الشعب واتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية منها الرفع في الحد الأدنى من الأجور بمائة يورو.
وعمليا، تأخر كثيرا ظهور حركة السترات الصفراء، فقد اعتاد الفرنسيون التظاهر من أجل التغيير بين الفينة والأخرى لكن هذه المرة تدهورت المعيشة بشكل لافت للعيان دون رد فعل مباشر، حيث كانوا يتظاهرون في شبكات التواصل الاجتماعي أكثر من أرض الواقع. ومن باب المقارنة، فقد شهدت البلاد خلال العقد الأخير تدهورا في مختلف المجالات، حيث تراجعت جودة الصحة والتعليم، وهما قطاعان رئيسيان للغاية، علما ان الفرنسيين يتباهون دائما بالقطاعات العمومية على حساب القطاعات الخصوصية عكس الولايات المتحدة وبريطانيا.
وعلاقة بالتحدي الأول، لم تشارك الأحزاب السياسية والنقابات في تأطير السترات الصفراء لأن هذه التشكيلات تراهن على الحلول الكلاسيكية وهي الجلوس الى مائدة المفاوضات، لكن السترات الصفراء اعتبرت هذه الآليات متجاوزة وراهنت على صراع مفتوح في الشارع. لقد أتبثت السترات الصفراء القوة التي تتوفر عليها شبكات التواصل الاجتماعي. فقد تعاملت الصحافة الفرنسية بنوع من التهميش في تغطيتها لهذه الحركة، أولا لم تدرك قوتها، وثانيا غياب أحزاب سياسية ونقابات جعلها تعتقد في صعوبة أن تتحول الى حدث أو ظاهرة ضاغطة على الدولة, ولكن حدث العكس. ويبقى السر في الدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة يوتوب والفاسبوك ونسبيا تويتر، حيث استطاع النشطاء إقناع المواطنين بخطابات بسيطة وواضحة تتتعلق بمختلف جوانب الحياة المعيشية عير هذه الآليات. وبهذا، تبرز شبكات التواصل الاجتماعي قوتها في صنع رأي عام لا يحتاج الى زعماء بل فقط الى أفكار بسيطة يلتف الناس حولها. وإذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي قد أقنعت الرأي العام العربي إبان الربيع العربي بضرورة التحرك من أجل الديمقراطية، ففي حالة السترات الصفراء كان الخطاب هو تحسين الأوضاع المعيشية طالما هناك ديمقراطية.
وعلاقة بالتحدي الثاني، حركة السترات الصفراء هي نتيجة عوامل مختلفة تزامنت وجمعت بين الفكري والظرفي ولكنها تجاوزت خطابات مختلف الأحزاب السياسية سواء اليمين بشقيه المحافظ الليبرالي وكذلك اليسار الاشتراكي وإن اقترب الخطاب من اليساري الراديكالي. وعليه، السترات الصفراء تطرح إشكالا سياسيا عميقا هو مدى تمثيلية المؤسسات التشريعية مثل البرلمان أو المرتبطة بها مثل الأحزاب لانشغالات ومطامح وقلق الشعب في فرنسا وفي الغرب برمته. فرنسا دولة ديمقراطية بل من أعرق الديمقراطيات، تجري فيها الانتخابات بشكل شفاف للغاية، لكن هذه المؤسسات التشريعية العريقة لم تعد تعكس الإرادة الحقيقية للشعب، وبالتالي كان التحرك الجماعي. ولا يرى بعض المحللين السياسيين أن الخلل يكمن في المؤسسات بل في الأحزاب التي عندما تصل الى السلطة تتراجع عن الكثير من الوعود الانتخابية وخضع لسلطة المؤسسات المالية. ومن ضمن الأمثلة، لقد طرح الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون خلال الانتخابات الرئاسية مشروعا طموحا للغاية، لكن بمجرد توليه رئاسة البلاد كشف عن برنامج مغاير وهو ما أدى الى ظهور السترات الصفراء. وكتبت صحف مثل ليبراسيون وميديابار بأن السترات الصفراء هي تصحيح لمسار ماكرون، أي إعادته الى سكة الوعود التي قدمها. وعمليا، كان ماكرون قد قدم وعودا هامة في الحملة الانتخابية، وكان برنامجه قريب من المواطن البسيط لاسيما بعد ترويجه لفكرة انتهاء اليسار واليمين في السياسة وجعل مطالب الشعب بدون خلفية سياسية وإديولوجية. رغم غياب دراسات سوسيولوجية من زاوية انتخابية لمعرفة نوعية محتجي السترات الصفراء، ينتمي الكثير منهم الى تلك الفئة التي لا تشارك في الانتخابات وفقدت الثقة في المؤسسات، وهي تقارب 40% في كل دولة أوروبية ويزداد عددها مع كل انتخابات. وهذا ما يفسر عجز الأحزاب على مد جسور التواصل معها سواء اليسار الراديكالي أو اليمين القومي المتطرف.
ويبقى التحدي الثالث هو هل ستبحث فرنسا ضمن الحل الشامل عن حلول ستمتد الى مستعمراتها السابقة لتسريع النمو الاقتصادي؟ قد يبدو التساؤل غريبا، لكن التاريخ يقدم أمثلة ملموسة. وإذا عدنا الى القرن التاسع عشر، فقد وجدت فرنسا في استعمار مناطق أخرى من العالم خير مساعد لاقتصادها من أجل الازدهار وتحقيق شعارات الثورة الفرنسية التي نادت بالمساواة. وكانت مفارقة كبيرة للغاية أن أولئك الذين رفعوا شعارات إنسانية في الثورة الفرنسية هبوا لاستعمار واستعباد شعوب العالم الاخر من أجل تحقيق أرباح اقتصادية. وعندما واجهت أزمة حقيقية في السبعينات ظهر ما يعرف بمافيا فرنسا في إفريقيا وهي استغلال خيرات القارة الإفريقية وتحويلها الى سوق رئيسية للمنتوجات الفرنسية. وتوجد كتب كثيرة حول استغلال فرنسا لمستعمراتها استعمارا بشعا. وعليه، عادة ما يكون الرد على مطالب الشعوب هو البحث عن منفذ في الخارج، وهنا يدخل احتمال تعزيز فرنسا لمزيد من نفوذها في القارة الإفريقة لتكون سوقا أكثر للمواد الفرنسية لتحقيق نو اقتصادي أكبر وقد يكون بطريقة غير شفافة.