هل جنبت كثرة الاستخبارات بشار الأسد السقوط؟

قال الممثل الكوميدي السوري دريد لحام في وصف القمع الذي شهدته سوريا أن  “فروع المخابرات في سوريا كانت أكثر من المدارس”. قد نختلف كثيرا مع هذا الفنان الذي كان من المدافعين عن نظام الأسد والآن يغير موقفه بعد نجاح الثورة، لكنه يلقي الضوء على أهم معضلة في العالم العربي وهو نوعية بوصلة المخابرات بين الدفاع عن الأمن القومي للبلاد والدفاع عن الحاكم الذي لا يجسد دائما المصلحة العليا للوطن بل الشخصية.

واعتمد نظام بشار الأسد في سوريا منذ عهد أبيه حافظ الأسد على أجهزة أمنية واستخباراتية متعددة، رافقتها أساطير الرعب بسبب ما شاع عنها من ممارسة أنواع التعذيب والاغتيال والتشهير ضد المطالبين بالعيش وسط الكرامة ووسط أجواء الحرية. وسارت هذه الاستخبارات من كثرتها مثل مجموعة من الفرق التي تشكل بطولة رياضية، حيث تتبارى فيما بينها حول من يعتقل أكثر ومن يعذب أكثر ومن يغتال أكثر، ومن سيقدم تقارير لإقناع الرئيس بالخطر المتربص في كل “زنقة زنقة” بكرسي السلطة الذي يجلس عليه. وتبقى المفارقة الكبرى أن جحافل المخابرات لم تحمي بشار الأسد من انهيار كرسي عرشه وتحقيق حلمه حيث كان ينوي التحول الى ملكية بتوريث العرش لابنه. ولم تنفع كثرة أجهزة المخابرات في رسم خطة لاستعادة الجولان من الاحتلال الإسرائيلي، لكنها أطلقت من النار على الشعب السوري وليس على إسرائيل. ومن المفارقات الأخرى، أن مدراء مختلف المخابرات كانوا قد أعدوا سرا خططا للهروب من سوريا بينما كانوا يبيعون في العلن صلابة النظام وقوة بنيانه السياسي. وبالفعل هرب أغلبهم الى دول مجاورة، ويوجد آخرون مختفون مثل الفئران لتفادي الاعتقال ومحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها طيلة عقود. والأكيد أن من غادر نحو الخارج سيتحول الى جاسوس للدولة المضيفة له، هذا أن لم يكن جاسوسا لها من قبل لكي يؤمن مستقبله ويتفادى الاعتقال والترحيل وإن صدرت في حقه مذكرات اعتقال دولية. وكم من ضابط كبير هرب نحو الخارج، ليس لأسباب سياسية بل لمبالغته في الفساد وعدم اقتسام الكعكة مع شركاءه،  وها هو يعرض أسرار الأمن القومي لبلاده على دول عدوة طمعا في الحصول على اللجوء السياسي.

وهذا الأمر، لا يقتصر على سوريا بل على عدد من الأنظمة العربية وفي العالم الثالث، حيث تتوفر كل دولة على عدد من الأجهزة تفوق عدد استخبارات دول كبرى من حجم الولايات المتحدة. وإذا كانت هذه الأخيرة لديها أجندة للاستمرار في زعامة العالم ومواجهة الصين والتدخل في مختلف الدول، مما يبرر هذا العدد الهائل من الاستخبارات، ما هي أجندة استخبارات غالبية الدول العربية لاسيما التي تمتلك ما يفوق العشرة؟ غالبية الاستخبارات العربية تفتقر لمفهوم الأمن القومي الحقيقي، وينص هذا المفهوم على: “يهدف الأمن القومي إلى الحفاظ على وحدة المجتمع واستقراره واستمراريته وحياة مواطنيه ورفاهيتهم”. وتختلف أساليب العمل وتطبيق هذا المفهوم الذي يقوم في شقه الداخلي على الاحترام التام للقانون، وقد يكون على هامش القانون في شقه الخارجي لاسيما في التعامل مع الأعداء. غالبية الاستخبارات العربية تختزل هذا المفهوم في خدمة الحاكم وإن كان فاسدا، ثم ملاحقة المعارضة عبر الاعتقال والتنكيل والتشهير وتوظيف الوطنية لخدمة هذه الأجندة، وتجدها بارعة في إنتاج البروباغاندا الوطنية ومنافسة كتاب سيناريو الدرجة الثالثة في تلفيق التهم ضد المعارضين والتشهير بهم.  تعتبر غالبية هذه المخابرات المسؤولة عن مآسي الأوطان في العالم العربي في الماضي والحاضر والمستقبل لأن منهجيتها في الاعتداء على الأفراد والأقليات الذين يمارسون حقهم في التعبير والانتظام السياسي هي الأرضية الحقيقية لنشر حالة غياب الاستقرار، اعتداءات تصنع قنابل/انتفاضات وثورات ضد الحكام مستقبلا، وهو ما حدث في الربيع العربي ويحدث الآن في سوريا والسودان.

ومن باب المقارنة بين الاستخبارات الغربية والكثير من نظيراتها العربية وفي بعض دول العالم الثالث، الأولى تحمي الوطن من الحكام الفاسدين، والثانية تلاحق من يندد بفساد الحكام. الأولى تفضح كل سياسي مهما بلغ شأنه إن تورط في ملف فساد، وبالفعل فضحت وزراء ورؤساء حكومات وملوك كانت لهم حسابات في الخارج، بينما الثانية تعمل المستحيل للتستر على فساد الحكام. ويمكن للقارئ أن يتساءل: لماذا لا يتوفر قادة الغرب الغرب على حسابات سرية وإقامات فاخرة خارج أوطانهم؟ ثم، لماذا تحركت  الاستخبارات الغربية في فضح مسؤوليها ومواطنيها الذين لهم حسابات سرية في سويسرا وبنما ومدت القضاء بما يكفي من الحجج لفتح تحقيق ضد المتورطين، بينما عمدت الثانية الى شراء الذمم حتى لا يكتبوا عن الحكام العرب؟

الأولى تخدم أجندة لتحافظ على تقدم وطنها بما في ذلك قيامها بسرقة أسرار الصناعات والأبحاث العلمية واختراق القانون في تعاملها مع دول ثالثة قد تكون منافسة أو صديقة وليس فقط عدوة، والثانية تحافظ على اختطاف المعارضين وتبدع في إقامة المعتقلات لترضي الحاكم.

سيكون للعالم العربي استخبارات في المستوى عندما تجدها مثل نظيراتها الغربية، تسعى لتجنب خلق أزمات مجانية للحفاظ على صلابة المجتمع حاضرا ومستقبلا، وتفضح فساد الحاكمين، ويتعرض موظفوها للطرد من دول ثالثة ليس بتهمة ملاحقة معارض أو اغتياله أو زرع ميكروفونات في منزله في الخارج وامتداد التشهير والاعتداء الى أفراد عائلته، وإنما  بتهمة سرقة أسرار علمية-صناعية.ستكون للعالم العربي استخبارات في المستوى عندما تدرك أنها ليست في خدمة ضعية الحاكم بل في خدمة وطن الشعب.

في مقال سابق في هذا الركن بتاريخ 29 أبريل 2019، كتبنا مقالا بعنوان “في العالم العربي الخطر الحقيقي هو الاستخبارات وليس الجيش”، وجاء فيه “عندما تنتقل الشعوب إلى ممارسة حريتها، تعيد النظر في الكثير من المؤسسات، ومنها مؤسسة الاستخبارات. وفي الدول التي انتقلت ديمقراطيا منذ السبعينيات مثل البرتغال وإسبانيا واليونان، بل حتى في أمريكا اللاتينية، جرى تنظيم الاستخبارات وإخضاعها لمراقبة لجنة خاصة في البرلمان وتولي قضاة مراقبة عملها”.

نختم، هل جنبت كثرة الأجهزة الاستخباراتية نظام بشار السقوط أو ساهمت في إعداد خطة لتحرير الجولان المحتل؟ لم تحميه بل تركت جروحا ستتطلب مرور جيلين لكي تندمل،  هذا إذا لم تتحول هذه الجروح الى قنابل حقيقية تفتت وحدة البلاد مستقبلا.

Sign In

Reset Your Password