بدأت شعوب الجنوب في بلورة خطابات ثقافية تهدف من خلالها إلى تأسيس رؤية تتماشى مع هويتها، تقوم على تساؤلات تهم الذاكرة التاريخية. لا يتعلق الأمر فقط بإعادة قراءة التاريخ، بل التوقف عند حقبة رئيسية وهي حقبة الاستعمار. وهذا الوضع يفرز حرب الذاكرة، التي تؤثر بشكل متنام على العلاقات الدولية، لأن شعوب الجنوب بدأت تطالب تدريجيا بالتعويض عن الجرائم التي ارتكبها الشمال.
وغداة الاستقلال، كان مثقفو الجنوب في المرحلة المباشرة للاستقلال متأثرين بأساتذتهم في الجامعات الغربية. وأنجز باحثون من دول الجنوب دراسات تحت عنوان عريض وهو «ما بعد الكولونيالية»، انكبوا على دراسة التطورات التي تشهدها المجتمعات بعد حصولها على الاستقلال. واعتمدت المقارنة بين الحقبة الاستعمارية وحقبة الاستقلال.. وجاء أغلبها من منظور غربي، يعتبر في العمق إعادة إنتاج الاستشراق، ولكن هذه المرة على يد أبناء البلد أو المثقفين المحليين، إذ افتقدت هذه الدراسات لما هو جوهري وهو معالجة الاستعمار من زاوية أنه عمل ضد الإنسانية.
ومنذ بداية القرن الجاري، بدأت دول الجنوب تشهد نوعا من الاستقرار، دول انتقلت إلى الديمقراطية، وأخرى تتراجع فيها السلطوية، ما يفتح الأمل نحو إرساء نظام ديمقراطي. في الوقت ذاته، بدأت الجامعات في الجنوب تعيد كتابة تاريخ الوطن من زاوية جديدة ومستقلة وتستغني تدريجيا عن زاوية المعالجة التاريخية، التي كرستها مركزية الثقافة الأوروبية خلال حقب زمنية طويلة. وعند معالجة الاستعمار الغربي، تحاول جامعات الجنوب إيجاد أجوبه شافية عن أسئلة جوهرية وهي: باسم أي قانون أو شريعة، أعطت دول الشمال لنفسها الحق في استعمار دول الجنوب؟ ثم، كم من ملايين البشر من الجنوب فقدوا أرواحهم إبان حروب مواجهة الاستعمار، من أجل تحقيق الاستقلال؟ وتستمر الأسئلة، كم هو حجم الثروات التي نهبها المستعمر وما زال ينهبها تحت مسميات مثل الشركات المتعددة الجنسيات؟ وأخيرا السؤال الجوهري: كيف يمكن محاسبة المستعمر عن الجرائم الفظيعة التي ارتكبها من نهب وإبادة؟
وفي جامعات الجنوب، لا تقف دينامية إعادة قراءة التاريخ الاستعماري من زاوية الجنوب، عند ما هو أكاديمي بتقديم سرد تاريخي جديد للأحداث، بل تفتح الباب أمام الفاعل السياسي لمطالبة الغرب بتقديم اعتذار وتعويضات عن الجرائم والنهب خلال حقبة الاحتلال. وهو ما يحدث الآن. وتختلف مطالب التعويض عن الاستعمار، بعضها يمتد للمطالبة بجرائم وقعت منذ قرون خلت، مثل حالة أمريكا اللاتينية، وأخرى مرتبطة بالاستعمار الذي ظهر في القرن التاسع عشر بمفهومه الكولونيالي، ويتعلق بالدول الافريقية وبعض الدول الآسيوية، وأخيرا حالة الاستعمار المؤقت المرتبط بالحرب العالمية الثانية، مثل حالة الصين وكوريا الجنوبية والشمالية والفلبين مع اليابان. وتوجد مستويات مختلفة في المطالبة بالتعويض والإنصاف، توجد دول جعلت من هذه المطالب نقطة رئيسية في أجندتها وخطابها الدبلوماسي والسياسي، ودول تتعامل مع هذا المطلب بشكل مناسباتي، ومن باب الضغط على القوة الاستعمارية السابقة، وصنف آخر من الدول يبقى صامتا وتتولى جمعيات غير حكومية منبثقة عن المجتمع المدني مهمة التعويض عن الاستعمار. علاقة بأمريكا اللاتينية، تعتبر هذه المنطقة هي السباقة إلى تحقيق نوع من استقلالية الخطاب السياسي والثقافي عن الغرب، وذلك بحكم التقدم الذي شهدته منذ العقود الأولى من القرن العشرين، وعلى رأسها انتشار الجامعات. وينقسم هذا الخطاب إلى قسمين، الأول وهو قائم على ما هو تاريخي موجه ضد إسبانيا من طرف غالبية الدول الناطقة باللغة الإسبانية. ويندرج الخطاب في سياق التشكيك في السردية الاستعمارية، والتنديد بالطابع الاستعماري الجديد لمشروع الهسبانية، التي تعني جميع الشعوب الناطقة بالإسبانية. ويعتمد القسم الثاني على مطلب التعويض عن الأضرار التي ألحقتها الولايات المتحدة بمنطقة أمريكا اللاتينية. ومنذ بداية القرن الواحد والعشرين، تبلور خطاب لدى حكومات ذات توجه يساري، مثل حالة فنزويلا وكوبا وبوليفيا ثم المكسيك، تطالب اسبانيا بالاعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها منذ حقبة الاكتشافات الجغرافية التي تعني في العمق عمليات الغزو الكبرى، ومحاولة القضاء على حضارات بعضها قديم جدا. ويتجلى هذا الخطابات في مظاهر معينة مثل رفض دول وحركات سياسية وثقافية الاحتفال باليوم الهسباني 12 أكتوبر، وهو تاريخ اكتشاف كريستوفر كولومبس القارة الأمريكية سنة 1492. وتزعم الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز ما يمكن اعتباره «تدمير الهسبانية»، فقد طالب بجعل 12 أكتوبر «يوم مقاومة السكان الأصليين للوافد الأجنبي»، وشدد على الحاجة إلى التفكير في ذكرى 12 أكتوبر في علاقتها بالتاريخ الاستعماري والعواقب التي لا تزال قائمة إلى اليوم في مجتمعات أمريكا اللاتينية.
وإذا كانت ذكرى 12 أكتوبر مرتبطة بأحداث تعود إلى قرون، فقد بدأ يتبلور في أمريكا اللاتينية تيار سياسي – ثقافي يطالب بفتح ملفات تورط الولايات المتحدة في الانقلابات التي عاشتها المنطقة منذ الخمسينيات حتى الوقت الراهن. ويتهم هذا التيار الولايات المتحدة بالتورط في التخطيط للانقلابات والحروب الأهلية، خدمة لمصالحها، وعرقلت بعملها هذا تطور الديمقراطية، وتسببت في مقتل مئات الآلاف من المواطنين، وألحقت خسائر بمئات المليارات من الدولارات في المنطقة، لأن عرقلة التطور السياسي يعني عرقلة النمو الاقتصادي.
ويعيش العالم العربي الإرهاصات الأولى في مراجعته وإعادة النظر في السردية الاستعمارية. ويتطور هذا الخطاب في منطقة شمال افريقيا أكثر منه في المشرق العربي، نظرا للدينامية السياسية وحركية المجتمع المدني في دول مثل المغرب والجزائر وتونس، مقارنة مع دول مثل سوريا والعراق واليمن. وكان الرئيس الليبي معمر القذافي أول زعيم من منطقة شمال افريقيا يطرح ضرورة تعويض الاستعمار الإيطالي لليبيا عن عقود الاحتلال. وركز على التعويض المالي، وأقنع نسبيا رئيس حكومة إيطاليا الراحل سيلفيو بيرلسكوني بهذه المطالب. وتجعل الدولة الجزائرية من اعتراف فرنسا بجرائم الاستعمار شرطا أساسيا لإقامة علاقات طبيعية في المستقبل. ونجحت الجزائر سنة 2023 في إقناع باريس بتشكيل لجنة من المؤرخين من البلدين للنظر في الحقبة الاستعمارية، منذ بداية الاحتلال حتى الحصول على الاستقلال، وهي حقبة تناهز 130 سنة. ومن ضمن مطالب الجزائر استعادة كل ما نهبته فرنسا من رموز الأمة الجزائرية.
ويتولى هذه المهمة في المغرب المجتمع المدني. وبالفعل، فقد أفرز المجتمع المدني في شمال البلاد حركة سياسية وثقافية تطالب بفتح ملف الحرب الكيماوية ضد منطقة الريف في العشرينيات من القرن العشرين. وكانت هذه المنطقة من أولى المناطق في العالم التي جرى فيها استعمال الغازات السامة ضد السكان. ولجأت إسبانيا وفرنسا إلى الحرب الكيماوية للقضاء على ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي كان يهدد الوجود الاستعماري الفرنسي والإسباني في مجموع شمال افريقيا. نجح حقوقيون ومثقفون مغاربة في إقناع أحزاب سياسية إسبانية مثل بلد الباسك وكتالونيا بطرح موضوع تعويض منطقة الريف عن جريمة الغازات السامة، وترفض الحكومة المركزية في مدريد هذه المطالب. وما يحدث في العالم العربي من مطالب يتكرر في بعض دول آسيا وافريقيا، حيث يعتبر طرد فرنسا من دول الساحل ضمن «تصفية الإرث الاستعماري». كما تطالب الصين والفلبين والكوريتين طوكيو عن الجرائم التي ارتكبها الجيش الياباني قبل وإبان الحرب العالمية الثانية.
إن مطالبة الجنوب للشمال بالتعويض عن جرائم الماضي يدخل في حرب الذاكرة، وستتعاظم هذه المطالب مستقبلا لإصلاح همجية تاريخية، ارتكبها الشمال ضد الجنوب.