حققت المساعدة الأمنية التي قدمتها الولايات المتحدة وأوروبا لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نجاحات وإخفاقات عديدة طيلة العقدين الماضيين، هذه الصيرورة أرخت بظلالها على الوضع الحالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فلم يعد من الممكن فصلُ طبيعة الأحداث والصراعات والمساعي نحو السلام والإصلاح والتنمية التي تتأرجحُ بين النجاحِ والإخفاق عن مسلسل “المساعدات الأمنية” التي تقدمها الدول الغربية لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي هذا الصدد، قامت جدلية بحوارٍ مع الأكاديمي مولاي هشام العلوي، الباحث المشارك في مركز ويذرهيد للشؤون الدولية بجامعة هارفارد، ومحرر مشارك في كتاب “المساعدة الأمنية في الشرق الأوسط: التحديات… والحاجة إلى التغيير” (Security Assistance in the Middle East: Challenges… and the Need for Change) مع الدكتور روبرت سبرينغبورغ زميل غير مقيم في المعهد الإيطالي للشؤون الدولية وأستاذ مساعد في كلية الدراسات الدولية بجامعة سيمون فريزر.
جدلية (ج): أول شيء يتبادرُ إلى الذهن حينما نطالعُ كتابكم القيم، هل يمكنُ اعتبار المساعدات الأمنية جزءاً من المشكلة أم جزءاً من الحل للوضع الذي تشهده منطقتنا؟ ألا يمكنُ اعتبارُ أن الوضع سيصير أسوأ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بدون المساعدات الأمنية التي تخصص للمنطقة؟
هشام العلوي (هـ. ع.): في البداية وجبَ أن نذكرَ أنفسنا بأن مجتمعات ودول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منخرطة في سياقٍ جيوسياسي أمسى أكثر تنافسية، كما أنهُ لا مفرَّ من أن المصالح الأجنبية ستلعب دائماً دوراً مهماً في المنطقة. وعلى ضوء هذا فإن مسؤوليتنا تكمنُ في بقائنا واقعيين ومحترمين أيضاً لتطلعات شعوب المنطقة، الساعية نحوَ مزيد من المساءلة والاستجابة من حكوماتهم.
قمنا ثانياً بمراجعة جميع الآثار السلبية المحتملة للمساعدة الأمنية، ثم طرحنا مسألة ما إذا كان يمكن تقليلها ومدى إمكانية تعزيز النتائج الإيجابية. وعليهِ، نعتقد أنه من الممكن أن تقدم المساعدة الأمنية مزايا كبيرة للدول المانحة والدولِ الممنوحة، إذا ما تم إجراء تغييرات حقيقية في مفهوم المساعدات الأمنية. من بين هذه التغييرات تحسين السيطرة المدنية على الجيش، ودعم الإصلاحات السياسية، وتعزيز الشفافية المالية والتنمية الاقتصادية. من ناحية أخرى لا يمكننا التغاضي عن السياسات التي يقودها الغرب لدعم المؤسسات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دون أي اكتراث بالمآلات المستقبلية، لأن مثل هذا النمط غالباً ما يؤدي إلى عدم الاستقرار الذي تتجنبهُ القوى الغربية، وكمثالِ على ذلك ما حدثَ في الربيع العربي.
بالنسبة إلى الافتراض القائل بأن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستزداد سوءاً في غياب المساعدة الأمنية، فإن الإجابة عن الأمر تعتمد على الإجابة على افتراضاتنا الرئيسة في الكتاب. فإذا افترض المرء توقفَ المساعدة الأمنية الغربية، فمن ناحية سنرى بالتأكيد تنامي المطالب الشعبية بالديمقراطية والكرامة في أكثر من دولة، كما ستكون المؤسسات العسكرية أقل قدرة من الناحية المالية والتقنية، وربما سيخلق هذا المزيد من الفرص للتغيير السياسي. ومن ناحية أخرى، فإن غيابَ المساعدات الأمنية سيولّد فراغاً يمكنُ أن تستغلهُ الجهات الفاعلة الأخرى من أجلِ ممارسة تأثير أكبر، بما في ذلك الجهات الفاعلة الإقليمية مثل إيران والجهات الفاعلة العالمية أخرى مثل روسيا والصين. وهذا سيجعلنا نتخيل إمكانية اعتماد بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على هذه القوى الجديدة لتحقيق التوازن بينها وبين تطلعات الشعوب، وربما الانزلاق في أعمال عنفٍ أسوأ كالحاصلِ في الحالة السورية. يجب أن نكون مدركين أيضاً للوجود القوي للإرهاب والتطرف العنيف.
(ج): كيف تأثرت العلاقات المدنية-العسكرية المحلية في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هل عززت المساعدات الأمنية من كبح مسلسل الدمقرطة، وانخراط المؤسسات العسكرية في المهام المدنية بما فيها الاقتصاد والسياسة؟
(هـ. ع.): توصلَ الباحثون الأكاديميون في هذا العمل لخلاصة جوهرية مفادها أن أثرَ المساعدات الأمنية على العلاقات المدنية العسكرية يعتمد على الوضع السياسي لكلِ دولة؛ حيثُ لا يوجد نموذج واحد يناسب جميع البلدان. فعلى سبيلِ المثال، لم تُمَكِن المساعدة الأمنية في لبنان وتونس الجيشِ من الأدوات السياسية والاقتصادية على حساب المؤسسات والمنظمات المدنية. في لبنان، من المتصور أن تعزيز الجيش اللبناني قد يكون متناغماً مع تعزيز الديمقراطية وتدعيماً لها. أما في دولِ الخليج، فلم يقم الغرب بدعمِ تمكين الجيوش على حساب الأسر الحاكمة، لكونِ هذه الأخيرة لا تزال تقومُ بالأدوارِ المناطة بها لصالحِ هذه الأنظمة والدول. في المقابل، نجدُ أن الجمهوريات العربية السلطوية، عملت على تعزيز القوة السياسية والاقتصادية للجيوش بدرجات متفاوتة، على حساب القيادات المدنية. وفي هذه الأنظمة حتى لو فرضنا غيابَ أي نوعِ من أنواع المساعدات الأمنية، ستظل جيوشُ هذه الدول هي الفاعل المهيمن في النظام السياسي، لأن هذه الأنظمة السياسية تشكلت على هذا النحوِ في الحقبة الاستعمارية.
(ج): كيف ساهمت “المساعدات الأمنية” في خلق حالة من الفوضى الأمنية والعسكرية في دول الشرق الأوسط التي باتت تشهدُ حروباً أهلية وحروباً بالوكالة؟ ومنه هل يمكننا أن نخلصَ إلى أن المساعدات الأمنية باتت قنبلة موقوتة في المنطقة يمكنُ أن تنفجر في أي لحظة؟
(هـ. ع.): أدى التنافسُ في تقديمِ المساعدة الأمنية إلى تفاقم الفوضى في بعض البلدان، بينما عززَّ القوة المركزية للدولة في البعض الآخر. في الحالة السودانية كما نرى الآن، قامت السلطات المصرية بتقديمِ المساعدة للجيش السوداني فيما دعمَ الروس قوات الدعم السريع، ليتخذَ الصراع بين الطرفين أشكالًا أكثر عنفًا. وهو السيناريو الذي يمكنُ لمسهُ كذلك في الحالة السورية واليمنية رغمَ اختلافِ مقدمي ومتلقّي المساعدات الأمنية. كما أن كليهما تأثر بشكل أعمق بفعلِ التدخلات الإيرانية؛ فتدفق المساعدات الأمنية من مصادر مختلفة أجج الوضع وضخّم الحرب الأهلية في البلدين. في المقابل تم تعزيز الأنظمة السلطوية في الجزائر ومصر بشكل مباشر من خلال المساعدات الأمنية، التي عززت الطابع الاستبدادي في هذه الدول، لكنها كذلك ساعدت في ضمان تماسك دولهم في مواجهة الصراع الاجتماعي.
(ج): إذا نظرنا إلى المساعدات الأمنية في المنطقة نجدُ أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر دولة تقدمُ هذه المساعدات لحلفائها من أجل السلم والأمن الدوليين، ولكننا نشهدُ أنها أمست أحد موارد التمويل لدى الدكتاتوريات، وظفتها من أجل تقوية مكانتها على حسابِ بقية المؤسسات “الديمقراطية”، فهل هذا الواقع يعبرُ عن سوء تقدير من الولايات المتحدة للمساعدات الأمنية، أم أنها تؤكد وجهة النظر التي ترى بأن الغرب لا يسعى حقيقة نحو دمقرطة منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط بل يسعى فقط للاستقرار؟
(هـ. ع.): للولايات المتحدة أهداف متعددة من مساعدتها لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يتنافس بعضها مع بعضها الآخر. وهي تسعى إلى إبراز قوتها الصلبة والناعمة في المنطقة. الأول يعني “تعزيز قدرات الشركاء”، وهو المصطلح التقني الذي نستخدمه عند وصف الموارد المؤسسية والتكنولوجية للمؤسسات العسكرية لهذه البلدان. على النقيض من ذلك، فإن إبراز القوة الناعمة يدفع الولايات المتحدة إلى دعم التحول الديمقراطي باعتباره ترياقًا للإرهاب وعازلاً ضد الغرباء غير الديمقراطيين مثل روسيا وإيران. إن الثقل النسبي لهذه الأهداف يفضل الأول، والذي تعززه القوة البيروقراطية لوزارة الدفاع في مواجهة وزارة الخارجية أو الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، المزود الأمريكي الرئيس للمساعدة في إرساء الديمقراطية.
كما أن هناك إشكالية أخرى مرتبطة بحقوق الإنسان. فعلى مستوى الخطاب الرسمي فإن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية تروج لأفكار حقوق الإنسان، في حين تعلمُ الدول الغربية بأن التحول الديمقراطي يؤدي إلى فترات من عدم اليقين وغيابِ الاستقرار. وهو ما يخيف الحكومات الغربية، ويجعلها مستعدة للتضحية بمثالية حقوق الإنسان النابعة من قوتهم الناعمة، وهو الأمر الذي يولد سخرية على الوضع السياسي بين شعوب المنطقة.
لذا فإن خلاصة التوازن بين الطرحين كالآتي؛ تفضل الولايات المتحدة وحلفاؤها بشكل عام بشكلٍ مثالي أن تعمَّ منطقة الشرق الأوسط حكومات ديمقراطية تتماشى مع الغرب، لكن الغرب في المقابل مستعدٌ ليضحي بدمقرطة منطقة الشرق الأوسط إذا كانت القضايا الاستراتيجية مثل الاستقرار السياسي ومكافحة الإرهاب واحتواء إيران على المحك. ومنه فإن الواقع الجيوسياسي يتطلب مرة أخرى التعامل مع تحديات مساعدة ودعم الجيوش الشريكة في الدول الحليفة مثل مصر وتونس والأردن والمملكة العربية السعودية.
(ج): كيف ساهمت المساعدات الأمنية في تحديد علاقة المدني بالعسكري في تونس؟ ولماذا لم تنتقل تونس لبر الأمان الديمقراطي رغم تطور العلاقة المدنية العسكرية مقارنة بالبلدان العربية الأخرى؟
(هـ. ع): لم يلعب الجيش التونسي أبداً دوراً مهماً في السياسة التونسية، على عكس أغلبِ الجيوشِ العربية الأخرى. ومردُ هذا الاختلاف يرجعُ لمجموعة من الأسباب؛ تاريخيا كان الرئيس التونسي بورقيبة لا يثق في الجيش وكان يتجنبُ استثمار موارد كبيرة في بنائه، نتيجة لهذه الاستراتيجية، لم يسيطر الجيش التونسي على الحياة السياسية والاقتصادية. كما قدمت فرنسا والولايات المتحدة مساعدات اقتصادية وسياسية وأمنية للجيش التونسي على مدى عقود عديدة، ساهمت في إضفاء الطابع المهني على الجيش كما ساعدت هذه المساعدات بالفعل في إبعاد الجنود التونسيين عن السياسة المحلية. وهنا وجبَت الإشارة بأن الفاعلين الخارجيين عملوا ضمن معايير السياق المحلي، الذي تم إنشاؤهُ خلال عملية تشكيل الدولة في مرحلة ما بعد الاستعمار.
كما ساعدَ افتقارُ تونس لجيشٍ تدخلي قوي في مسارِ انتقالها الديمقراطي بعد الربيع العربي. فرغم وجودِ العديد من الاحتجاجات في تونس منذ 2011، لم يتدخل الجيش لدعم حزب على آخر، ساعد هذا المعطى في الحفاظ على التحول الديمقراطي في سنواته الأولى، أما المنعطف الذي أخذ تونس نحوَ السلطوية عام 2021 فهو نتيجة لما قامت بهِ القيادة المدنية حينما حلت البرلمان التونسي وبدأت في كبح المعارضة مجدداً. ولم يتخذ الجيشُ التونسي موقفاً قوياً، مما يعكس دوره السلبي في الحياة السياسية بشكلٍ عام. فالتراجع الديمقراطي في تونس له علاقة بالفساد والاختناق السياسي الذي طبعَ الحكومة التونسية في السنوات الأخيرة.
(ج): الكتاب قدمَ ورقة عن الوضع اللبناني الذي يتسمُ بالتعقيد، ألا يمكنُ اعتبار بأن العلاقة بين المدني والعسكري في لبنان تتجاوزُ المساعدات الأمنية المقدمة له، وتصلُ إلى بنية الدولة اللبنانية القائمة على ازدواجية الطائفية والأمننة؟ وهل يمكنُ بناء نموذج ديمقراطي على ضوء الوضع الحالي بلبنان؟
(هـ. ع): يشكل الجيش اللبناني قوة موازنة لحزب الله اللبناني، الذي يعمل كذراعٍ بالوكالة لسياسة إيران الاستراتيجية. إحداثُ انتقال ديمقراطي في لبنان لا يمكنُ أن يتم دونَ تقليصٍ كبيرٍ لنفوذِ حزبِ الله بلبنان. كما لا يمكن أن يحدث مزيد من الدمقرطة في لبنان دون تقليص كبير لسلطات حزب الله، ويبقى الجيش اللبناني هو الهيئة الوحيدة التي قد تكون قادرة على توفير ثقل موازن ودعم للفاعلين السياسيين المدنيين. إلا أن المشكلة تتمثلُ في كونِ لبنان يعاني من عواملٍ مثلَ التفاعلات الطائفية، والبيروقراطية الفاشلة، والانهيار، أدت إلى إفراغ الدولة اللبنانية من جميعِ أدوارها ومقاصدها. ورغمَ هذا الوضع المتأزم فإن الجيش اللبناني هو إحدى المؤسسات القليلة التي لا تزال تعمل في لبنان. وبالطبع، لا ينبغي أن يُنظر لها على أنها نموذج يحتذى بهِ للديمقراطيين، فالسياق اللبناني يجعلُ من المؤسسة العسكرية جهة يفترضُ فيها أن تكونَ فاعلة بشكلٍ إيجابي. لهذا السبب، يواصل الغرب تقديم مساعداتٍ أمنية كبيرة للجيش اللبناني، بالرغم من أنها غير كافية للحفاظ على لبنان مزدهراً ويتمتعُ بسيادة كاملة.
(ج): في الحالة المصرية قدم الكتاب مقاربة مهمة مفادها بأن طبيعة المساعدات الأمنية المقدمة من الولايات المتحدة لمصر تعوقُ أي مشروعٍ لدمقرطة في مصر، لكنهُ في الختام يقترحُ نموذجاً لإصلاح هذا النموذج، ولكن السؤال هو ما الذي سيرغمُ الجيش المصري من التنازل على السلطة والدفع بعجلة الدمقرطة في ظل هيمنتهِ على المشهد السياسي والاقتصادي المصري؟
(هـ. ع): يقترحُ الكتاب ضرورة تطويرِ معرفة تتيحُ للمدنيين الانخراط في المؤسسات العسكرية، بما في ذلك مصر بشكلٍ خاص، حيثُ يمكنُ لمقدمي المساعدات الأمنية البدء في تطوير أساس يتيحُ للمدنيين لعبَ دورٍ أكبر داخل المؤسسات العسكرية، كخطوة جوهرية في الديمقراطية. لذلك نوصي بضرورة بناء القدرات المؤسسية للجيش المصري وفقَ منهجٍ يشركُ المدنيين داخلهُ، كوسيلة لجعل الجيش أكثر مسؤولية ومهنية. وهنا نشيرُ بأن الدمقرطة مسألة أخرى بعيدة المنال، ولكن لا ينبغي للمرء أن يسعى للكمال من الوهلة الأولى؛ بعبارة أخرى، تحقيقُ إصلاحٍ جزئي أفضل من عدم القيام بأي شيء. الإصلاح حتى وإن كان جزئياً يمكن أن يكون نقطة مرجعية يمكنُ البناء عليها من أجل تحقيق تغيير طويل الأمد.
أحد التنبيهات المهمة يتمثلُ في ضرورة فصل المساعدات الأمنية الغربية المقدمة للجيش المصري عن الدور الكبير الذي يلعبهُ الجيش المصري في الاقتصاد المصري والحياة العامة. هذا الدورُ نابعٌ من التطورات التاريخية والتي ولدتها طبيعة الدولة المصرية، وهو أمرٌ يسبق دخول دورِ الولايات المتحدة وحلفائها الذي لم يبرز سوى بعد التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل في أواخر السبعينيات. ورغم أن العاملين مترابطان، لكنهما ليسا بالشيء الواحد.
بالإضافة إلى ذلك، فإن من الأمور التي خَلُصَ لها الأكاديميون المساهمون في الكتاب هو أنه لا يمكننا إعادة إنتاج السياسات السابقة دون إحداثِ أي نقدٍ لها؛ ستدعم الولايات المتحدة دائماً الجيش المصري لأسبابها الاستراتيجية العديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل مكافحة الإرهاب وإسرائيل، لا يمكنُ التعالي على هذا الواقع، ومنهُ فإن مهمتنا تتمثل في اقتراحِ مسالكَ جديدة لتحسين وإصلاح هذا الوضع، يتمثل أحدها في التأكيد الدائمِ بأن الجيش المصري لا يجب أن يرى نفسه على أنه متعالي على جميعِ الفاعلين المدنيين، سواء كانوا أحزابًا سياسية أو مصريين عاديين يتوقون إلى الكرامة والمشاركة السياسية.
(ج): ما هي الأمور الجوهرية التي تجعلُ من المساعدات الأمنية الأوروبية مختلفة عن نظيرتها الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط؟ ولماذا كلاهما فشل في بلوغِ الأهداف المنشودة؟
(هـ. ع): المساعدة الأمنية الأوروبية تحاكي وتختلف في نفسِ الوقت عن تلكَ المقدمة من نظريتها الأمريكية، فما تقدمهُ الدول الأوروبية يتمثلُ بتدريب وتجهيز الجيوش، وإن كان ذلك بكميات محدودة نسبياً بالمقارنة مع الولايات المتحدة، لكن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ينخرطان أيضًا في إصلاح قطاع الأمن، بجعل جميع المؤسسات الأمنية في أي بلد أكثر قابلية للمساءلة أمام المؤسسات المدنية، سواء كان الجيش أو الشرطة أو الأجهزة الأمنية أو المحاكم، وهو الأمر الغائبُ عن منهجِ الولايات المتحدة. أما عدم تحقيق الأهداف المرجوة منهما معاً فيرجعُ إلى صعوبة المهمة ومحدودية مناهجِ ووسائل تقديم المساعدة الأمنية؛ في حالة الدول الأوروبية، فهي متخصصة ومحدودة للغاية من حيث الكمية ليكون لها تأثير أعمق، والمشكلة تفاقمت من خلال توازن القوة النسبي بينها وبين والولايات المتحدة وروسيا، فدولُ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تسعى للحصول على المساعدة الأمنية من الجهات الفاعلة القوية لتكونَ مؤمنة، والدولُ الأوروبية لا تستطيعُ توفير نفس التأمين.
(ج): كيف شكلت المساعدات الأمنية الأمريكية المشهد السياسي بالأردن، وهل حقاً استطاعت هذه المساعدات عسكرة المشهد السياسي؟
(هـ. ع): تعدُ حالة الأردن فريدة من نوعها بخصوصِ كيف أن الاعتماد على الدعم الغربي يعزِّزُ صيرورة محلية تعمقُ السلطوية، تاريخُ المساعدات الأمنية والاقتصادية الأمريكية الموجهة للأردن يمتدُ لأواخر الخمسينيات من القرن الماضي؛ جعل من الأردن غير قادرٍ على العيشِ بدونها، وفي هذه العملية دعمت واشنطن نظاماً سياسياً لا يخدمُ فيه الجيش الأردني النظام الملكي الهاشمي فحسب، بل يراقب أيضاً المجتمع ويضيقُ ويحاصرُ المعارضة؛ لأن الأردن شريكٌ في سلامِ إسرائيل، لذا عُومِلَ كحليف غربي مخلص لجميع التحركات الاستراتيجية الكبرى التي حدثت في المنطقة طيلة هذا القرن، مثل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق وكذا ما بات يسمى بـ “الحرب على الإرهاب” ، وهذا الاحتكار السياسي والعسكري استمرار في جذب الدعم الغربي. لا يزال الجيش الأردني يتلقى الكثير من معداته وأسلحته من الولايات المتحدة وحلفائها، ولا تزال الدولة الأردنية تعتمد على المساعدة الغربية المتغلغلة في كلِ مستويات الدولة. إن هدف أصحاب المصلحة الغربيين بسيط للغاية ويتمثلُ في الاستقرار وليس الديمقراطية.
(ج): في الختام هل يجبُ التوقف عن محاولة إصلاح “أنموذج المساعدات الأمنية”، أم يجبُ الاستمرار فيه وفقَ منظورٍ إصلاحي داخل النموذج؟
(هـ. ع): يؤمنُ جميع المساهمين في هذا الكتاب الجماعي بأن المساعدات الأمنية يجب أن تستمر، ولكن مع إحداثِ إصلاحاتٍ حقيقية وفقَ ما تم اقتراحهُ في الكتاب. مرة أخرى يجب أن نذكر بأن عمليات الإصلاح يجبُ أن تطبقَ بعناية ضمن حدود واقعنا الجيوسياسي الحالي. ستظلُ منطقتنا دائمًا تجذبُ طموحات ومصالح القوى العالمية، والمتمثلة حالياً في الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، غدا قد يُضافُ لهم الروس والصينيون؛ وعليهِ يجب أن نفكر في مسارات أكثر إنتاجية حيث يمكن تسخير النمط المألوف لهؤلاء الفاعلين الخارجيين الذين يقدمون الأسلحة والاستخبارات والتمويل والمعرفة للمؤسسات العسكرية الشريكة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتحقيق أهداف إيجابية. لا يمكننا أن ننسى أن ما تتوق إليه كل الشعوب العربية متمثلٌ أساساً في الديمقراطية والكرامة وحرية التعبير.. هذه المطالب المنبعثة من المجتمع لن تتلاشى أبدًا، ومنهُ فإن التحدي الذي يواجهنا هو كيفية ربط هاتين الديناميكيتين المختلفتين للغاية.