نحو خريطة جيوسياسية جديدة في العالم العربي، الثالثة بعد الخريطة العثمانية وسايس بيكو/ د.حسين مجدوبي

صورة معبرة عن تغيير في الخريطة جيوسياسية العربية

شهد الخرائط السياسية العالمية تغييرات كل ثلاثة أو أربعة عقود من الزمن، وعادة ما تكون الاضطرابات الداخلية وسط البلد الواحد والإقليمية في وسط إقليمي معين مقدمة لهذه التغييرات جيوسياسية. وبدأت كل المؤشرات تدل على تغيير في الخريطة السياسية العربية، فالمخاض السياسي والتضارب الثقافي والصراع الإثني والاستقطاب الطائفي السني-الشيعي الذي تعيشه سيكون من نتائجه تبلور خريطة سياسية جديدة، وإن كانت السودان قد سجلت الحلقة الأولى بعدما فقدت الشطر الجنوب.  والتساؤلات تستمر حول دول أخرى وهي العراق وسوريا وليبيا واليمن التي تفتقد لسلطة مركزية وبالتالي سيترتب عنها فقدان الحدود السياسي، ويعتبر المثال السوري الأبرز، حيث جرى تقسيم البلد بين قوى النظام والمعارضة المسلحة.

وتعتبر منطقة البحر الأبيض المتوسط، وامتداداتها شمالا في أوروبا وجنوب في المغرب العربي وشرقا في الشرق الأوسط، المنطقة في العالم التي تسجل ومنذ نهاية القرن التاسع عشر تغييرات جيوسياسية كبرى من خلال تفكك دول وظهور كيانات أخرى. ومن خلال إلقاء النظر على خريطة هذه المنطقة في نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، يتضح التغييرات التي حدثت وخلفت خريطة سياسية تتغير باستمرار، استمرار يكاد يحدث من جيل الى آخر. فقد تغيرت الخريطة السياسية الأوروبية في الحرب العالمية الأولى بانهيار واختفاء إمبراطوريات ، وتغيرت في الحرب العالمية الثانية كما تغيرت مع سقوط جدار برلين، وحصل كل هذا ما بين 1914-1991، في أقل من تسعين سنة، أي ثلاثة أجيال فقط.

ومن العوامل التي تعتبر مساهمة بشكل فعال في تغيير الخريطة السياسية لمنطقة معينة تعدد الثقافات والإثنيات وتضارب المصالح الاقتصادية، وهذا ما يفسر انفجار حربين عالميتين في القارة الأوروبية بينما لم تنفجر في القارة الأمريكية بشمالها وجنوبها حيث تهمين ثقافتين، الأنجلوسكسونية شمالا واللاتينية جنوبا.

والتعدد الاثني والثقافي الذي يصل الى مستوى المواجهة ويمتد عبر حقب طويلة مثلما هو الشأن في أوروبا ومجموع البحر الأبيض المتوسط، يساهم باستمرار في صنع الخريطة السياسية. وتسجل أوروبا الآن محاولات تغيير، فقد ظهرت كوسوفو والجبل الأسود، وهناك محاولات في اسبانيا عبر كتالونيا واستمرار حلم اسكوتلندا بالانفصال عن المملكة المتحدة، والنزاع الصامت في كورسيكا الفرنسية وشمال إيطاليا كذلك، وآخر حلقة هي ما تشهده أوكرانيا التي فقدت خريطتها السياسية في ظرف سنة بفقدان جزيرة القرم وشرق البلاد.

وعلى شاكلة أوروبا ومنها المتوسطية، يشهد العالم العربي في الوقت الراهن بوادر خريطة سياسية جديدة آخذة في التشكل. ومنذ القرن التاسع عشر، وحتى الوقت الراهن شهد العالم العربي خريطتين سياسيتين رئيسيتين، لم تساهم الشعوب في تشكيلهما لأنها من نتاج عوامل خارجية، لكن الثالثة مرتبطة بعوامل داخلية أكثر منها خارجية دون التقليل من قوة وتأثير الأخيرة.

والخريطة جيوسياسية الأولى منذ القرن الثامن عشر حتى بداية القرن العشرين هي التي شكلتها الإمبراطورية العثمانية بعدما قسمت العالم العربي الى محافظات، ورسمت واختلقت بذلك الحدود التي ستقوم عليها الدويلات العربية مستقبلا، وعندما بدأت تسقط هذه الدويلات سقطت وفق هذه الحدود، كما حدث ما يسمى الجزائر عندما استعمرتها فرنسا سنة 1832.

والخريطة السياسية الثانية هي التي رسمتها اتفاقية سايس بيكو واتفاقيات لاحقة مثل سان ريمو عندما اقتسمت فرنسا وبريطانيا منطقة الشرق الأوسط في بداية القرن العشرين رفقة اتفاقيات سابقة حول شمال إفريقيا منها اتفاقية مدريد حول المغرب في أواخر القرن التاسع عشر. وعندما استقلت الدول العربية، فكانت حدودها السياسية، وهي الحالية التي لم تشهد تغييرات جذرية بعد، من إنتاج مقص الدول الاستعمارية الكبرى، كما حدث في منطقة الشام والخليج ولبنان والأردن.

وخلال السنوات الأخيرة، بدأ العالم العربي يسجل إرهاصات حقيقية نحو بلورة خريطة سياسية جديدة، وهناك منعطفان رئيسيان، الأول وهو الحرب الأمريكية-البريطانية ضد العراق وما يترتب عنها حتى الآن من اضطرابات، والمنعطف الثاني هو إفرازات الربيع العربي.

وقد تسببت الحرب الأمريكية-البريطانية في تغيير جذري في العراق بانتقال السلطة من نظام سني وإن كان يرفع شعار التقدمية بزعامة صدام حسين الى نظام شيعي، وهذا جر الى تقوية الدوري الإيراني في المنطقة بأكملها من لبنان وسوريا الى اليمن مؤخرا علاوة على العراق. وبالتزامن مع هذه الحرب، كان المحافظون الجدد في واشنطن يرغبون في خريطة سياسية جديدة للعالم العربي عبر ما يسمى “الشرق الكبير” الذي لم ينجح ولم يغب عن أجندتهم نهائيا.

وعلاقة بإفرازات الربيع العربي، فقد انتعشت في العالم القوميات الإثنية والثقافية والدينية ومنها الشيعة أساسا ومطالب الأقباط  الذين يحلمون بدولة مستقلة في مصر. وهذه المطالب هي المحرك التاريخي لأكبر التغييرات السياسية. وبدأت هذه القوميات المختلفة تطالب بإصلاحات سياسية تحترم حقوقها بما في ذلك اعتماد أنظمة جديدة مثل الكونفدرالية وتقرير المصير، وتستغل قوى أجنبية هذه المطالب في محاولة للتحكم في التطورات.

وتتزامن هذه المطالب مع تراجع دور الدولة الوطنية-القطرية في العالم العربي التي لم يسبق أن كانت متينة في الماضي. ويؤكد خبراء جيوبولتيك أنه إذا اجتمعت مطالب القوميات واتخذت شكلا عنيفا بسبب غياب آليات الحوار وتقاليد التفاوض فانتظر ظهور كيانات جديدة مستقبلا.

وتعتبر أكبر تجليات هذا الوضع في دول مثل ليبيا وسوريا والعراق ومؤخرا اليمن، وتتخذ شكل الإثنية الثقافية-العرقية مثل حالة الأكراد في العراق وسوريا، والمظهر الديني والاثني العرقي في دول مثل لبنان واليمن وسوريا. وعليه، فالخريطة السياسية العربية تتغير بالتدريج، ولعل أكبر تجلياتها هي كالتالي:

في المقام الأول:  تراجعت مساحة السودان سنة 2011 بعد انفصال الجنوب في أعقاب حرب بين المسلمين والمسيحيين، فهي حرب دينية محضة. وعليه العالم العربي ما قبل 2011 ليس هو بعد 2011. وفقدت السودان 619 ألف كلم مربع، وهي مساحة تفوق مساحة دول مجتمعة مثل الأردن وسوريا ولبنان ودول الخليج باستثناء العربية السعودية. وتبقى خريطة السودان مهددة في شرق البلاد بسبب نزاعات إثنية في دارفور.

في المقام الثاني، توجد الآن دولتين عربيتين لا تسيطر نهائيا على حدودها وتفتقد لسلطة مركزية وهذا يدوم منذ سنوات: وهي العراق وسوريا، فالبلدان تحت رحمة قوى سياسية كلاسيكية تعتبر نفسها شرعية  ونفوذها يوجد فقط في العاصمة ومناطق أخرى. وهذا السيناريو سيدوم زمنا وقد يولد كيانات أبرزها الأكراد شمال العراق وتفتت سوريا الى دويلات غير معلنة تحت رحمة داعش والنظام والجيش الحر، حيث بدأت سوريا تأخذ ملامح سيناريو يوغوسلافيا التي ستفرخ دولا.

المقام الثالث، يعود شبح الانقسام الى اليمن في أعقاب التطورات الأخيرة التي تفاقمت مع “عاصفة الحزم”، حيث بدأت تتحول اليمن الى يمن شمالي قريب من إيران ويمن جنوبي قريب من دول الخليج وعلى رأسها السعودية. وعمليا، اليمن يعيش فوضى شبح التقسيم ولا يمكن استبعاد عودة سيناريو الدولتين الذي كان قبل التسعينات.

في المقام الرابع ، تستمر مطالب جزء من الصحراويين في الجنوب المغربي ويوجد الملف بيد الأمم المتحدة حيث لم يتم الحسم فيه بين الحكم الذاتي وتقرير المصير، وهو ملف منفتح على كل الاحتمالات. ومن جهة أخرى، تفشل الجزائر في تلبية مطالب القوميات في منطقة القبايل، وقد ينفلت الملف مستقبلا، وهي التي تعتقد في المؤامرات الخارجية دون الانتباه الى المطالب المشروعة. وتبقى ليبيا الحالة الأصعب، فلم يحدث الانفصال الفعلي وظهور كيانات حتى الآن بسبب المساعي الدولية المكثفة مؤخرا وكذلك بسبب وجود جيران أقوياء تضمن حتى الآن الحدود الليبية.

 قراءة الأحداث العربية من انفجار الإثنيات والصراع الديني والاستقطاب الديني الإقليمي سنة-شيعة ما بين بداية القرن الواحد والعشرين والتكهنات بما قد يسجله نهاية العقد الجاري أو حتى منتصف المقبل علاوة مع التطورات العالمية نحو عالم متعدد الأقطاب يفرض مصالح جيوسياسية جديدة، وبالتزامن مع غياب ثقافة الحوار وآليات التفاوض، يؤكد حتمية تغييرات سياسية كبرى تحدث الآن ومرشحة للتفاقم مستقبلا.

وكل هذا بدأ يترتب عنه إرهاص تغييرات في حدود الدول العربية ستتبلور على المدى المتوسط والبعيد وهو ما سيفرز “الخريطة جيوسياسية الثالثة للعالم العربي” بعد خريطة الدولة العثمانية وخرائط التقسيم التي فرضتها فرنسا وبريطانيا في بداية القرن العشرين.

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password