شكلت زيارة العاهل الإسباني الملك فيلبي السادس الى المغرب فرصة للحديث عن وضع اللغة الإسبانية والدراسات حول اسبانيا، والغريب هو اختزال الكثير من المهتمين ما يصطلح عليه ب”هسيبانيسمو” في تلقين اللغة الإسبانية والبحث في آدابها، وهو مفهوم كلاسيكي عتيق بينما مفهومه الحقيقي هو الدراسات الشاملة حول اسانيا والناطقين باللغة الإسبانية وخاصة أمريكا اللاتينية.
وتمحور النقاش خلال الأسابيع الأخيرة حول وضع اللغة الإسبانية في المغرب وتراجعها كلغة أجنبية ثانية، وكانت تدخلات عدد من الأساتذة المغاربة ندوة احتضنها مركز سيرفانتيس في الرباط منذ أسبوعين دالة على هذا التراجع في الجامعة المغربية، وجرى توجيه انتقادات الى الدولة الإسبانية ونسبيا الى المغربية في هذا الشأن.
والواقع أن انتشار لغة لا يتم عبر مراكز ثقافية وتخصيص أموال خاصة في عهد الإنترنت حيث يمكن الحصول في شبكات التواصل الاجتماعي مثل يوتوب على دروس مجانية ورفيعة المستوى لتعلم اللغات بل هل المجتمع، وفي هذه الحالة المغربي، في حاجة الى تعزيز لغة ونشرها، وفي هذه الحالة الإسبانية.
معطيات الواقع تشير الى أن الإسبانية أصبحت مرادفا للبطالة في المغرب، وهذا بشهادة ربورتاجات نشرتها الصحافة الإسبانية فقد نشرت جريدة الباييس يوم 18 يناير 2018 مقالا بعنوان “الإسبانية تفقد وزنها في التعليم المغربي”، وجاءت مقالات أخرى في الموندو وإسبانيول ضمن أخرى في الاتجاه نفسه. وإذا لم تحدث معجزة، سيكون من الصعب احتلال الإسبانية مكانة مهمة في المشهد الثقافي والعلمي في المغرب لأن الشباب المغربي يتجه الى تعلم الإنجليزية كلغة أجنبية ثانية بعد الفرنسية.
والتساؤل هنا: هل المغرب في حاجة الى اللغة الإسبانية أو الدراسات حول اسبانيا وأمريكا اللاتينية، أي هيسبانيسمو أو إيسبنيسمو Hispanismo؟ اللغة مفتاح لفهم الثقافات الأخرى لكن وظيفتها الحقيقية هو جعلها أداة للمعرفة خاصة حول الآخر. ولفهم هذا بشكل أعمق، نستحضر تعلم اللغة العربية في اسبانيا. لقد حرص الإسبان منذ مدة على تعلم اللغة العربية لحاجتهم الماسة لها، في البدء لمعرفة التواجد الإسلامي، وكان رايمون يول في القرن الثالث عشر رائدا في هذا المجال، وذلك لمعرفة كيفية إنهاء السلطة الإسلامية في الأراضي الإسبانية. ثم اهتم الإسبان بالعربية لنقل العلوم الى اللاتينية، ومنذ القرن التاسع عشر يهتم الإسبان بالعربية لمعرفة الآخر الذي هو المغرب لأهميته الإستراتيجية في الحياة السياسية الإسبانية. لم يسبق لإسبانيا أن اعتمدت على المغرب لتلقين العربية لطلابها وخبراءها بل تتعامل مع اللغة كمعطى جيوسياسي لضمان معرفة الجار الجنوبي، المغرب” وهي التي تخطط وتستثمر في هذا بعيدا عن أي وصاية دولة عربية.
ولهذا تجد خبراء اسبانيا في الشأن المغربي لا ينتجون كثيرا في اللغة أو الآداب بل أنتجوا دراسات بين كتب وأبحاث ورسائل جامعية تعالج مختلف الجوانب المغربية بما فيها تلك التي لا يسمح هامش حرية التعبير في المغب التطرق إليها مثل مستقبل الملكية ومستقبل الجيش ونوعية المخابرات ضمن مواضيع أخرى. ولا يتحدث الكثير من هؤلاء الخبراء اللغة العربية أو يتقنونها ورغم ذلك الكثير منهم يحمل وصف ” Arabista”.
الدراسات حول اسبانيا يجب أن تتضمن شقين، الأول وهو اللغوي ويتوفر المغرب على باحثين ومبدعين ، والشق الثاني وهو التخصص في الدراسات الإسبانية وأمريكا اللاتينية أي هيسبانيسمو بمفهومه الشامل، وهنا يوجد نقص كبير بسبب غياب رؤية للدولة المغربية تجاه الجار الشمالي باستثناء مبادرات ومجهودات فردية. لقد أنشأت الدولة المغربية معهد الدراستا الإسبانية والبرتغالية ولكن بدون بصمات في تطوير الدراسات حول اسبانيا وأمريكا اللاتينية.
لكن هذا لم يمنع من تطور الدراسات الإسبانية في المغرب. نعم، توجد مدرسة هيسبانية في المغرب، لم تتبلور بعد بالشكل الكافي بسبب غياب مخطط للدولة المغربية. ويمكن اعتبار الدراسات التي أجراها المؤرخ بن عزوز حكيم بكتبه سواء بالعربية أو الإسبانية مرحلة تأسيسية. وعمل آخرون على تطوير هذه المدرسة وأبرزهم المرحوم محمد العربي المساري بإنتاجاته الوفيرة حول اسبانيا سواء في الصحافة أو تأليف كتب مثل “العلاقات الصعبة بين المغرب واسبانيا” باللغة الإسبانية. وانتعشت المدرسة الهسبانية مع عملية الترجمة التي يقوم بها مثقفون مغاربة ومن أبرز هذه الأعمال تلك التي ترجمها إبراهيم الخطيب لأحد منارات الفكر والابداع الإسباني وهو خوان غويتسولو، أو إبداعات أدبية سواء الكتابة بالإسبانية أو الترجمة مثل حالة عبد الرحمان فتحي أو خالد الريسوني أو ترجمة أعمال فكرية وأدبية كان لها بالغ الأثر حول صورة المغرب في اسبانيا، ونذكر منها “رحلات الى المغرب” لعلي باي وترجمها مزوار الإدريسي ثم “شاهد على حرب إفريقيا” لبيدرو أنتونيو دي ألاركون وقام بترجمتها محمد عبد السلام المرابط و”عيطة تطوان” لبيريث غالدوس من ترجمة عمر بوحاشي ثم “الفكر الإسباني ومستقبل اسبانيا” لأنخيل غانبيط من ترجمة إدريس الجبروني.
وهناك مدرسة هسبانية في التاريخ بحكم ارتباط العلاقات بين البلدين، ونجد في هذا الصدد كتب مؤرخين مثل امحمد بن عبود وأحمد الشريف أو مصطفى المرون بكتاباته المتعددة حول الحرب الأهلية ومشاركة المغاربة ثم الغازات السامة، وكتب أخرى مثل كتاب نبيل دريوش حول العلاقات الثنائية أو كتاب مراد زروق حول دور الترجمة إبان الحماية مثل كتابه الهام كلمنتي سيردييرا، مترجم ودبلوماسي وجاسوس في خدمة الجمهورية الثانية” وإنتاجات عبد الواحد أكمير والتي تمتد الى أمريكا اللاتينية. وتمتد المدرسة الهسبانية الى إنتاجات صحفية مستمرة مثل كتابات سعيد الجديدي منذ عقود أو سفير المغرب في كوبا بوغالب العطار أو أحمد بن صالح أو محمد بوخزار أو عزيز الساطوري أو حميد البجوقي أو محمد المودن وأحمد مغاربة ولطيفو كاسيدي ضمن آخرين.
ومن ضمن المبادرات الجماعية التأسيسية، هناك مرصد أمريكا اللاتينية ومقره في الرباط ويضم عدد من الباحثين من جامعات مغربية، وقد أصدر هذا المرصد خلال الشهر الماضي سادس تقرير حول الأوضاع السياسية في أمريكا اللاتينية بعين تحليلية مغربية محضة. ويتعهد بمواصلة البحث العلمي في هذا الشأن.
المغرب لم يراكم كثيرا في “المدرسة الهسبانية” لأن مستوى إنتاج المعرفة حول اسبانيا ضعيف للغاية، فهناك غياب ملحوظ لأبحاث حول اسبانيا وأمريكا اللاتينية بحكم وجود الجامعات المغربية في مرحلة جنينية وغياب مراكز للدراسات الاستراتيجية وغياب تقاليد دراسة الآخر بما فيها الدول. لكن هناك اجتهادات يجب تطويرها بسبب أهمية الجار الشمالي اقتصاديا وعسكريا وسياسيا واجتماعيا، شريطة عدم وصاية اسبانيا على هذه الدراسات ومنها تعليم اللغة الإسبانية التي يجب أن تخضع لحاجيات البلاد وليس إرضاء الآخر. يجب نسيان أن اسبانيا في برامجها الخاصة باللغة العربية والدراسات حول المغرب والعالم العربي لا تعتمد على المغرب أو دول عربية أخرى، والأمر نفسه مع باقي الدول الغربية بل تخطط لنفسها ولحاجياتها.