يشهد المغرب نقاشا حادا حول اتفاقية التجارة الحرة الموقعة مع تركيا، وتحول إلى مواجهة سياسية بين من يرفعون شعار الوطنية للدفاع عن الاقتصاد المحلي، ومن يتهمون بمساندة تركيا لأسباب دينية، خدمة لما يسمى مشروع رجب طيب أردوغان، لكن النقاش الحقيقي هو لماذا انخرط المغرب في اتفاقيات التجارة الحرة، بشكل مفرط للغاية بينما اقتصاده هش؟
واستعرض وزير التجارة حفيظ العلمي في البرلمان مؤخرا، مساوئ اتفاقية التجارة مع تركيا، وعمل على شيطنة الاتفاقية بأرقام بعضها واقعي وآخر مختلق، وهدد بتمزيق الاتفاقية. وفي الطرف الآخر، يوجد نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذين كانوا أتراكا أكثر من الأتراك أنفسهم، في الدفاع عن هذه الاتفاقية، ويتساءلون لماذا التركيز على تركيا وحدها. وكالعادة قام خبراء وسياسيون في الفضاء العمومي- الإعلامي وشبكات التواصل الاجتماعي بتبني هذه الأطروحة أو تلك، أحيانا بأسلوب أنيق، يجعل مصلحة البلاد فوق أي اعتبار، وأحيانا بنوع من الأسلوب السياسي الرخيص.
واعتمادا على معطيات اقتصادية، أضرت اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا بالاقتصاد المغربي، لكنها ليست الوحيدة، بل شأنها شأن الاتفاقيات الأخرى. فقد جرى التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا سنة 2004، ودخلت حيز التنفيذ سنة 2006. في وقت لم يكن فيه الحزب الإسلامي في الحكومة، بل كان معرضا للحظر، بعدما اعتقد تيار في المربع الملكي بمسؤوليته المعنوية عن التفجيرات الإٍرهابية التي تعرضت لها الدار البيضاء يوم 16 مايو/أيار 2003. لقد أشرف على اتفاقيات التبادل الحر، سياسي من منظومة المخزن وهو الوزير الأول السابق إدريس جطو. وكانت الاتفاقية خطأ جسيما مثل الكثير من الأخطاء، التي وقعت في ما يصطلح عليه (العهد الجديد)، مثلا، لقد كانت صناعة النسيج المغربي تعيش ابتداء من سنة 2002 أزمة في صادراتها نحو الاتحاد الأوروبي، بسبب قوة الصناعة النسيجية لدول أخرى مثل، الصين ودول جنوب آسيا وحتى تونس. وعليه، بدل قيام الدولة المغربية بتعزيز وحماية وتطوير صناعة النسيج المغربي، قامت بلعب دور الطابور الخامس بقبولها اتفاقية التبادل مع دولة ذات صناعة نسيجية قوية عالميا مثل تركيا. والمفارقة أن المغاربة الذين كانوا يطمحون إلى الرفع من صادراتهم إلى الأسواق الدولية، أصبحوا يستوردون معظم الملابس من تركيا، نظرا لجودتها وأسعارها المناسبة.
المغرب دولة محدودة الاقتصاد، لا يتعدى دخلها القومي مئة مليار دولار في السنة، والدخل الفردي متدن للغاية، والقطاعات الاقتصادية غير مهيكلة بما فيه الكفاية. ورغم هذه الهشاشة يعد من الدول القلائل التي وقعت أكبر عدد من اتفاقيات التجارة الحرة مع دول أخرى، سواء القوية منها، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أو المتوسطة مثل تركيا، أو الشبيهة بالاقتصاد المغربي مثل مصر والأردن. وراهن العهد الجديد على الاتفاقيات الحرة نتيجة عاملين:
في المقام الأول، هيمنة فكر اقتصاد الربح السريع على الماسكين بالسلطة في البلاد، بعدما جرى الجمع بين الثروة والسلطة في المغرب، وظهور طبقة سياسية – مالية من رجال الأعمال، همها الأساسي هو الاستيراد وليس الاستثمار.
في المقام الثاني، سقوط المغرب الرسمي ضحية توصيات مكاتب الدراسات الدولية، التي أوصته بالانفتاح الاقتصادي والانخراط في العولمة، وهو البلد غير المؤهل نهائيا، سواء من حيث صلابة الاقتصاد، أو التوفر على الأطر القادرة على وضع مخططات اقتصادية متينة. واعتقد الماسكون بزمام السلطة في البلاد، في تقارير هذه المكاتب، أكثر من اعتقاد المؤمن بالكتب السماوية. ومن أسباب الانهيار في المغرب، اعتماد وتبني السلطة لهذه التقارير المتناقضة والواقع المغربي.
لقد اعتقد الحاكمون أن المغرب في طريقه إلى التحول إلى تايوان أو سنغافورة، وهي الأطروحة التي يتم الترويج لها منذ بداية التسعينيات، تحت اسم «المغرب التنين الجديد»، في تقليد لاقتصاديات دول جنوب شرق آسيا. وفي دولة تفتقر للأطر الكافية، وتهميش الأطر الوطنية، وطغيان عقدة توصيات الأجنبي، وتم التوقيع على الكثير من اتفاقيات التجارة الحرة. لقد تناسى المغرب ثلاثة عوامل رئيسية للانخراط في اتفاقيات التجارة الحرة وهي:
*أولا، ضرورة تحقيق حد أدنى من صلابة صناعة وطنية، ليس فقط قادرة على المنافسة داخليا بل خارجيا، عبر الرفع من التصدير، وهذا يتم عبر استثمارات ضخمة، وتكوين جيش من الأطر في مختلف القطاعات. والمغرب لا يتوفر على الأرضية المناسبة، فهناك تعليم فاشل لا يصنع الأطر، وطبقة من رجال الأعمال همها الربح السريع. ويمكن الوقوف عند تجربة الدول التي وقعت اتفاقيات تجارة حرة للوقوف على مستوى جودة التعليم والاستثمار في القطاعات الوطنية. وتؤكد مختلف الدراسات أن الدول ذات الاقتصاد الهش هي الخاسرة في اتفاقيات التبادل التجاري الحر، عندما يكون مع دول ذات اقتصاد قوي. وهذا ما حصل في حالة المغرب في اتفاقياته مع معظم الأطراف.
*ثانيا، الدولة التي تراهن على اتفاقيات التجارة الحرة، لا بد لها من أن تضمن قضاء نزيها لمحاربة الفساد، وهو ما يوجد في عدد من الدول مثل، تايوان وسنغافورة والدول الأوروبية، بينما في المغرب لم يتحرك القضاء عندما جرى ذكر أسماء من في السلطة في تقارير ويكليكس والحسابات السرية.
*ثالثا، التبادل التجاري الحر يتطلب حرية تنقل رجال الأعمال والأطر للبحث عن فرص التصدير، الأمر الذي لا يحصل في حالة المغرب، حيث يعاني رجال الأعمال والأطر من سياسة مشددة للحصول على الفيزا، نحو الدول الأوروبية والولايات المتحدة، التي وقع معها المغرب اتفاقيات التجارة الحرة. وهذا من عناصر الخلل في هذه الاتفاقيات.
لقد ارتفعت أصوات كثيرة في الماضي، تحذّر من الانعكاسات السلبية لانخراط المغرب الرسمي في اتفاقيات التبادل الحر، كانت السلطة تسخر من هذه الأصوات وتنعتها بالشعبوية، وعدم مسايرة العصر. والآن، تبين صحة ومصداقية تلك الأطروحات المعارضة، وبدأ الحديث عن مراجعة الاتفاقيات. لقد ترتب عن هذه الاتفاقيات عجز خطير في الميزانية، وهو ما ترتب عنه تدهور الأوضاع العامة في الصحة والتعليم والشغل، لكن الأكيد أن الذين ورطوا المغرب في هذه الاتفاقيات اغتنوا بما فيه الكفاية، لقد كانوا طابورا خامسا بشكل من الأشكال.