موسكو تحل أزمة التمرد بالأسلوب الأمريكي

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

عاشت روسيا ليلة 23 ويوم 24 يونيو 2022 أكبر تحد خلال الثلاثة عقود الأخيرة، ومنذ انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي، ويتجلى في التمرد الذي قاده زعيم قوات فاغنر يفغيني بريغوجين، وكاد أن يتسبب في ما يشبه الحرب الأهلية وبانعكاسات كبيرة على النفوذ الروسي في الخارج، في وقت حساس تتشكل فيه خريطة جيوسياسية عالمية جديدة.
لم تكن استخبارات أي دولة أجنبية بما فيها الولايات المتحدة تنتظر وقوع هذا التطور الدرامي في روسيا، وهذا ما يفسر حالة الترقب القصوى المفاجئة التي نهجتها عواصم الدول الغربية مثل باريس ولندن، وأساسا واشنطن تخوفا من وقوع الأسوأ، بحكم أن روسيا دولة نووية ولديها حرب مع أوكرانيا، وتتهم الغرب بمحاولة إضعافها. ذلك أن الصورة كانت ضبابية بصفة كبيرة وتستمر ضبابية حتى الآن. وتردد في عواصم القرار الغربي سؤالان: هل مغامرة زعيم فاغنر نابعة من طموحات شخصية لا صلة لها بالواقع الحقيقي لروسيا؟ أم أن هذه المغامرة تحظى بتأييد كبير من طرف تيارات وسط الجيش الروسي الساخطة على مخططات الحرب التي ينهجها وزير الدفاع ضد أوكرانيا سيرغي شويغو؟ ولا توجد رواية غربية واحدة مقنعة، بل كل الروايات مبنية على تقييم الأوضاع وتأويلها. ويوجد يقين وحيد لدى الغرب وهو أن أوكرانيا ستؤدي ثمن هذه الأزمة من خلال رفع الجيش الروسي إيقاع الحرب، وسيرى في دحر هذا البلد المناسبة إعادة توحيد روسيا، وكان الرئيس فلاديمير بوتين واضحا عندما قال يوم الأحد الماضي «أولويتنا هي أوكرانيا».

لقد كانت القيادة الروسية أمام خيارين في مواجهة التمرد، الأول وهو التريث والتعامل بذكاء مع هذا المستجد في أفق إيجاد حل، أو استعمال القوة المفرطة ضد فاغنر مما ستكون له انعكاسات خطيرة على الوضع الداخلي ومكانة روسيا الخارجية. وعلاقة بالنقطة الأخيرة، مواجهة قوات فاغنر ليست عملية سهلة، إذ لا يتعلق الأمر بمعركة كلاسيكية، بل كان التخوف هو انتشار هذه القوات في موسكو ومدن أخرى وقيامها بشن حرب عصابات قد تخلف عشرات الآلاف من القتلى. إذ يتعلق الأمر بقوات مدربة وانتحارية، قادرة على السيطرة على مؤسسات عمومية، بل ومتاجر واحتجاز الرهائن، لاسيما بعدما تبين مدى ولائها لمؤسسها يفغيني بريغوجين. والأخطر هو احتمال انضمام جزء من السكان الساخطين إلى صفوفها، أو انضمام وحدات من الجيش. مثلا، عندما يحتل إرهابيون مبنى ويحتجزون الرهائن، تستغرق المفاوضات أياما قبل التدخل للقضاء عليهم، إذا لم يستسلموا، فكيف الحال مع آلاف الكوماندوهات الذين سينتشرون في مدن روسية. نعم، ستقضي الوحدات الأمنية والعسكرية النظامية على فاغنر، لكن الأمر سيتطلب أسابيع وفاتورة بشرية مرتفعة للغاية بمقتل عشرات الآلاف وجروح عميقة في المجتمع الروسي. وكل توتر مسلح في الداخل الروسي ستترتب عنه مباشرة انعكاسات خطيرة على نفوذ الروسي في الخارج. إذ يتزامن هذا التمرد مع الخريطة الجيوسياسية الآخذة في التبلور بزعامة كل من روسيا والصين. وتركز روسيا في خطابها الدبلوماسي على ضرورة «التقليص من هيمنة الغرب على العالم»، وهي نقطة محورية في خطابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرجي لافروف، وكل توتر عسكري في الداخل الروسي، كان سيتطلب سحب وحدات من مختلف نقاط الحدود ووقف المناورات الخارجية مع دولة ثالثة مثل الصين وتجميد مخططات في افريقيا للتفرغ لإنهاء التمرد. وهذا يعني خسارة روسيا سنوات من بناء النفوذ الخارجي، وكل إعادة بنائه سيتطلب وقتا كبيرا، بل قد تخسر روسيا قطار القوى الكبرى لأن التغييرات الحالية سريعة. لقد نهجت القيادة الروسية السيناريو الأمريكي في التعاطي مع هذه الأزمة، الاستراتيجية التي تبنتها المؤسسات الأمريكية في معالجة هجوم أنصار الرئيس الجمهوري دونالد ترامب على الكونغرس يوم 6 مايو/ايار 2021. فقد تم منح المحتجين وقتا للاحتجاج، ثم جرى إقناعهم بالانسحاب، وبعدها بدأت عمليات تصحيح الأخطاء أمنيا وقضائيا وسياسيا. لو كانت قوات الشرطة الأمريكية بمساعدة الوحدات الخاصة للجيش تدخلت ضد المحتجين في الكونغرس، لشهدت الولايات المتحدة شرخا خطيرا كان قادرا على التسبب في شبه حرب أهلية بحكم توفر غالبية الأمريكيين على السلاح. وكانت البلاد، وما زالت، تمر من حالة استقطاب شبيهة بما جرى في الحرب الأهلية إبان ستينيات القرن التاسع عشر.
لقد كانت القيادة الروسية واعية بهذه المخاطر، لهذا فضلت التعامل مع تمرد فاغنر من دون دماء، لاسيما بعدما تبين عدم تنسيق زعماء هذه الحركة مع الدول الغربية. ورأت في فاغنر أشبه باللحظات التي يفقد فيها الإنسان الرزانة ويرتكب خطأ فادحا وهو يعتقد أنه يخدم البلاد. عموما، وفق تاريخ معالجة روسيا للأزمات ومنطق التفكير لدى القيادة الروسية، هذا التمرد سيقود صناع القرار في موسكو إلى اتخاذ ثلاث خطوات رئيسية وهي:
في المقام الأول، بناء مؤسسات متينة لا تقوم على الشخص، بل على قوة الدولة العميقة التي تحرس البلاد من الانهيار. قد نرى تراجع صورة الرئيس فلاديمير بوتين مقابل قوة المؤسسات.
في المقام الثاني، وقف العمل بشركات الجيوش الخاصة وسط البلاد، واحتمال التسامح معها في الخارج، إذا كانت ستخدم النفوذ الروسي كما يقع مع فاغنر في مناطق افريقية مثل مالي.
في المقام الثالث، معالجة الأزمة سيتم وفق منطق قومي متشدد، وهذا سيحول روسيا إلى دولة قومية متطرفة في التعاطي مع الغرب. ومن دون شك، ستدفع أوكرانيا الثمن. سترى موسكو أن إنهاء الحرب بانتصار واضح سيعزز من وحدة روسيا.

Sign In

Reset Your Password