مراقبة بالأقمار الاصطناعية ومراقبة دقيقة لشبكة الانترنت وفيروسات مزروعة في الهواتف المشفرة وتطور في رصد هوية الأشخاص من الصورة إلى البصمات. إجراءات تحيل على أجواء شبيهة بأفلام هوليوود أو أجواء «بيغ براذر»، وفي آخر المطاف تقع اعتداءات إرهابية على شاكلة ما جرى في العاصمة باريس يوم 13 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري بحصيلة ثقيلة تصل إلى 129 قتيلا ومئات الجرى، ويكون التساؤل العريض: هل فشلت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الغربية في رصد الإرهابيين؟
تعترف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في أوروبا بوجود ثغرات أمنية وفشل استخباراتي في مواجهة الإرهاب، وتتحمل مسؤولية البعض منها بينما جزء آخر من الأخطاء لا يعد مسؤولية أي جهة أمنية أو سياسية بحكم المفاجآت التي يحملها الإرهاب. واعتاد المسؤولون في هذه الأجهزة الاختباء أحيانا وراء التفسيرات السياسية ووجود قوانين تعرقل مهامهم مثل قوانين الحرية التي يعتبرونها مبالغا فيها ثم ضعف الإمكانيات البشرية والمادية.
ومنذ بداية القرن الجاري، والعالم يعيش على إيقاع مكافحة الإرهاب بسبب عمليات إرهابية هزت العالم، وإن كانت العمليات في الغرب مثل مدريد سنة 2004 ولندن سنة 2005 وأخيرا باريس هي الأكثر استقطابا للاهتمام الإعلامي والسياسي وكذلك التحليل الأمني في الوقت ذاته.
ورغم أجواء «بيغ براذر»، أي مراقبة كل شيء من طرف وكالات استخبارات مثل وكالة الأمن القومي الأمريكية ووكالات أخرى غير معروفة لدى الجمهور حتى الوقت الراهن، تقع عمليات إرهابية، وهذا يجر إلى تساؤل آخر: هل الإرهابيون أذكى من الاستخبارات الدولية؟
والواقع أن التقدم التكنولوجي يعتبر مساعدا في رصد الإرهابيين ومكافحة الإرهاب، لكن الخلل الكبير يكون عادة في التصورات الاستراتيجية أو ما يمكن تسميته «بالنظريات الأمنية» التي تتحكم في كل فترة زمنية في مكافحة الإرهاب علاوة على إهمال دور العنصر البشري.
شكلت 11 سبتمبر أكبر عملية إرهابية في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وتعتبر الحدث الذي رسم بداية القرن الواحد والعشرين وتمتد تأثيراته المختلفة إلى الوقت الراهن، ويكفي ذكر حرب العراق التي ربطتها الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش وما ترتب عنها من ظهور تنظيم الدولة. ونفذ العملية مجموعة من العرب القادمين من الشرق الأوسط، وبالتالي لم يكونوا ضمن المقيمين منذ مدة طويلة في الولايات المتحدة أو ينتمون إلى الجيل الثاني من المهاجرين في هذا البلد.
وبنت الأجهزة الأمنية والمخابراتية استراتجيتها في مواجهة الإرهاب وأساسا تنظيم القاعدة على مراقبة القادمين من الدول العربية والإسلامية. وعلى ضوء هذا التصور، جرى العمل في اتجاهين، تشديد مراقبة الحدود والحذر من تحول الهجرة وخاصة القوارب المحملة بالمهاجرين من المغرب والجزائر إلى وسيلة للتسلل إلى الاتحاد الأوروبي. وتجلى الاتجاه الثاني في التشدد في منح التأشيرات للعرب.
فهذه النظرية الأمنية نصت على «الخطر القادم من الجنوب». وتطلبت التعاون الوثيق مع الأجهزة الأمنية والمخابراتية في العالم العربي والإسلامي مثل المغربية والأردنية والمصرية. وكان هذا يتم في بعض الأحيان على حساب حقوق الإنسان.
في الوقت ذاته، اعتمدت الأجهزة على المراقبة بالتكنولوجيا، الهواتف والبريد الالكتروني وغرف الدردشة، وأصبحت هذه الأجهزة الاستخبارتية تراقب الجميع، ولم تعتمد معيارا للفرز بين المسلمين العاديين ومن يظهرون بوادر تطرف بل يحصل التجسس على الجميع بمن فيهم نشطاء ليبراليين ويساريين مدافعين عن حقوق الإنسان وصحافيين، وهذا في وقت تفتقد فيه الاستخبارات للعنصر البشري الكافي.
وكانت النظرية الأمنية «الإرهاب الخارجي» صائبة لسببين، الأول هو عودة المتطرفين من أفغانستان إلى دول العالم العربي ومحاولة تأسيس خلايا لتنظيم القاعدة، وتجلى السبب الثاني في محاولة الكثير منهم التسلل إلى أوروبا.
وركزت الأجهزة الأمنية والمخابراتية الغربية كثيرا على هذا التصور وهمشت آراء الخبراء الذين كانوا يقولون بوجود الخطر الداخلي أكثر من القادم خارج الحدود، وإصرارهم على ضرورة التوازن في معالجة المصدر الخارجي والداخلي، لكن الغلبة كانت للخارجي دائما.
ووقعت مفاجأة تفجيرات 11 اذار/مارس 2004 في مدريد بعدما تبين قيام مهاجرين مقيمين في اسبانيا بتنفيذها. وجاء اعتداء إرهابي آخر خلال تموز/يوليو 2005 في لندن ليتأكد خطر الإرهاب الداخلي.
ولم تنتبه الأجهزة الاستخباراتية بما فيه الكفاية وفي الوقت المناسب إلى الدور الذي بدأت تلعبه الانترنت في علميات استقطاب الشباب ودور بعض القنوات الفضائية في شحن الكثير من الشباب المقيم في أوروبا، حيث لم تعد الحاجة إلى الانتقال إلى منطقة الشرق الأوسط. ومن المفارقات الغريبة هو تقدم الإرهابيين على استعمال الانترنت أكثر من أجهزة مكافحة الإرهاب.
ولم تكن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأوروبية مؤهلة بما فيه الكفاية لمعالجة ومواجهة الإرهاب. فطيلة العقود السابقة لم يكن الإرهاب المرتبط بالحركات الإسلامية موجودا في أوروبا باستثناء حالات نادرة مثلما حدث في فرنسا سنة 1995. وكان التركيز على الحرب الباردة. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية كان هناك جيلان من أفراد الاستخبارات متخصصين في خطر الاتحاد السوفييتي، وجيلان من الأمنيين متخصصين في الإجرام المنظم الذي لم يشكل خطرا على أمن أوروبا. ووصل الأمر إلى أنه مع بداية القرن الواحد والعشرين لم يكن لبعض الاستخبارات الأوروبية وجود في المدن باستثناء العاصمة ومدن كبرى والخارج، كما لم يكن لها خبراء في التطرف الإسلامي.
وبالتالي لم تطور الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأوروبية جيلا وشبكة قائمة على العنصر البشري لرصد الإرهابيين المرتبطين بالحركات الإسلامية والتكهن بالأبعاد التي سيتخذها، وحصل العكس في الدول العربية لأنها كانت وتستمر في اعتبار التطرف الإسلامي الخطر على الأنظمة الحاكمة.
ويتوفر بلدان أوروبيان فقط على التجربة البشرية المتطورة لمواجهة الإرهاب، وهما اسبانيا وبريطانيا في إيرلندا أساسا. الأولى بسبب وجود منظمة إيتا الباسكية التي كانت تنفذ عمليات إرهابية، والثانية بسبب وجود الجيش الإيرلندي المسلح. واستطاعت اسبانيا نقل تجربة الشبكة البشرية لمحاربة إيتا وتطويرها لمحاربة التطرف الإسلامي، ونقلت بريطانيا تجربتها في إيرلندا وتطويرها لمواجهة التطرف الإسلامي في مجموع المملكة المتحدة.
والخطأ الثاني في استراتيجية الإرهاب هو التصور الذي اعتمدته الأجهزة الغربية في بداية العقد الحالي ومفاده أن اندلاع الربيع العربي وانتشار فكرة الحرية ومطالب الديمقراطية وسط المجتمعات العربية والجاليات المسلمة في الغرب سيساعد على تراجع الإرهاب.
وهكذا، فمع اندلاع الثورة المسلحة في سوريا، ساعدت الأجهزة الأمنية أفرادا من الجاليات المسلمة التوجه إلى سوريا للقتال ضد قوات بشار الأسد. وكان الجيش السوري الحر وقتها هو الذي يحتضن المقاتلين ولم تكن هناك تنظيمات متطرفة إلى مستوى الإرهاب مثل تنظيم الدولة. وبعدما أدركت الدول الغربية تحول سوريا إلى معقل للإرهابيين بظهور حركات متعددة ومنها تنظيم الدولة، صححت الخطأ بخطأ فادح أكثر وهو السماح بطريقة غير مباشرة بانتقال المتطرفين إلى سوريا على أمل أن يلقوا حتفهم في المواجهات مع الجيش السوري، بمعنى تحول سوريا إلى مصيدة وفخ للإرهابيين للتخلص منهم.
في الوقت ذاته، ذهبت تحاليل أمنية إلى الترويج للفرق بين القاعدة وتنظيم الدولة بعد ظهور الأخير. فالأول كان يهدف إلى ضرب الغرب انتقاما مما يعتبره ظلم تاريخي، بينما تنظيم الدولة ركز على بناء الداخل بعد إعلان الخلافة، وكان يوجه نداءات للشباب في العالم الإسلامي وخاصة العالم العربي للالتحاق بالأراضي التي تحت سيطرته في سوريا والعراق لبناء مشروعه السياسي-الديني: الخلافة.
واستخلصت الاستخبارات الغربية نظرية أمنية أو تصورا أمنيا مفاده تركيز تنظيم الدولة على بناء ذاته دون نقل العمليات الإرهابية إلى الخارج. وكان هذا التصور صحيحا ظاهريا ولكنه خاطئ في العمق بحكم المرتكزات التي يقوم عليها التنظيم وهي بناء الذات في أفق تصدير الخلافة عبر آليات ومنها العنف والإرهاب. وفي هذا السياق تأتي اعتداءات باريس الأخيرة العنوان البارز لتصدير الإرهاب خارج سوريا وبالضبط نحو فرنسا.
تعتبر تفجيرات باريس منعطفا في تاريخ الإرهاب الجديد الذي ينطلق مع تفجيرات 11 سبتمبر. وتصرف الإرهابيون بتقنية كوماندوهات القوات الخاصة في الجيوش المتطورة مثل بريطانيا والولايات المتحدة. فقد استطاع أغلب أفراد الخلية التي نفذت اعتداءات باريس الانتقال من سوريا إلى قلب فرنسا عبر طرق الاحتيال والتمويه وقطع مسافات طويلة، واستطاعوا الحصول على المتفجرات والأسلحة من السوق السوداء، ونفذوا الاعتداءات على شكل كوماندوهات مدربة.
وبهذا، يشهد الإرهاب الآن قفزة نوعية في التقنيات المستعملة، وهي تقنيات الكوماندو أو تقنيات «نخبة كوماندوهات الإرهاب». فمن ضمن أعضاء التنظيم، عملاء مخابرات وضباط سابقين في الجيش العراقي والسوري، وأنشأوا ما يمكن تسميته بأكاديميات لصناعة الإرهاب العابر للقارات. وهذا هو المنعطف الخطير والمقلق.
في غضون ذلك، أيقظت تفجيرات باريس العالم على خطر إرهاب تنظيم الدولة، وهناك إجماع عالمي لأول مرة على خطورة هذه الحركة التي تحولت إلى دولة. ورغم كل هذا، يستمر المنتظم الدولي في الاختلاف حول طريقة المواجهة لأسباب استراتيجية بين الغرب وروسيا وبعض دول الشرق الأوسط. وهذا هو الخطأ الفادح الذي يستفيد منه التنظيم.