في الوقت الذي كان المراقبون يتوقعون من الملك محمد السادس قرارات ايجابية تحسن صورته التي تضررت بشكل كبير بعد عفوه عن مغتصب الأطفال نزولا عند رغبة دبلوماسية اسبانيا، فاجأتنا أجهزته الأمنية بقنبلة من العيار الثقيل: اعتقال الصحفي علي انوزلا مدير جريدة “لكم” الرقمية. وزادت الطين بلة عندما دبجت بيانات تبرر فيها الاعتقال بنشر الجريدة المذكورة شريطا وثائقيا لتنظيم “القاعدة في المغرب الاسلامي” وجهت فيه نقدا لاذعا للملك، ودعت إلى الاحتجاج ضده.
بغض النظر عن مسؤولية علي أنوزلا في نشر الشريط إياه من عدمها، خصوصا أن أبوبكر الجامعي، زميله في الموقع ومدير نسخته الفرنسية، اعترف أنه هو من نشر الشريط، فإن رواية اعتقال صحفي بسبب “شريط لتنظيم القاعدة” مسخرة ما بعدها مسخرة.
ففي ما يخص المتهم، من سوء حظ الملك محمد السادس أن فضيحة العفو عن المجرم مغتصب الاطفال التي اندلعت قبل أسابيع، جابت كل وسائل الاعلام العالمية ، وحرصت كلها على ذكر الجريدة الرقمية “لكم” بصفتها المصدر الإعلامي الذي أورد الخبر.
وبما أنها المرة الأولى التي تذكر فيها جريدة “لكم” في تلك المنابر فإن خبر اعتقال مدير الموقع، فرض عليها من الناحية المهنية على الأقل، الاشارة إلى تلك الفضيحة التي سعى المغرب الرسمي جاهدا إلى محوها من أذهان الرأي العام الدولي. ولعل الجديد اليوم أنها تطرح من زاوية التأكيد المبني على تعزز فرضية الانتقام من الصحفي الذي كشف الخبر.
اما بخصوص مسخرة التخابر مع “الإرهاب”، فيكفي أن نذكّر العقول المدبرة للقصر الملكي بثلاث محطات مهمة من علاقة الصحافة العالمية بتنظيم “القاعدة”:
الأولى صيف سنة 1998، بعد هجوم “القاعدة” على السفارتين في نيروبي ودار السلام وقتل أكثر من 400 شخص، قصفت إدارة بيل كلينتون أفغانستان والسودان بعشرات الصواريخ “كروز″. ومباشرة بعد تلك الغارات اتصل محمد عاطف الملقب بأبي حفص المصري، الذراع العسكري لأسامة بن لادن، اتصل بالأخ عبد الباري عطوان رئيس تحرير جريدة “القدس العربي” وقتها، وبعث له صور ضحايا الصواريخ الامريكية وأبلغهه أن هناك رسالة يريدون أن يوصلوها إلى إدارة كلينتون مفادها بالحرف نقلا عن عبد الباري: “نبلغه أننا سننتقم انتقاما كبيرا، وسنضربهم حيث سنوجعهم، وستكون مفاجأة لهم تزعزع أقدامهم”. وهو ما تم بالفعل ثلاث سنوات بعدها في ما بات يعرف باحداث الحادي عشر من سبتمبر.
بعد اتصال محمد عاطف، حرر عطوان مادة صحفية في الموضوع واتصل بوكالة الانباء العالمية “رويترز″ وابلغها بمضمون الخبر وبعث لها نسخة من المادة إياها. في اليوم الموالي ظهرت قصاصة رويترز على الجرائد العالمية وفيها رسالة بن لادن وصحيفة “القدس العربي” ورئيس تحريرها. ومع أن مضمون الرسالة أثار استياء عارما في الاوساط السياسية والمدنية الغربية، فإن السلطات في لندن لم يعتقل لا مدير “رويترز″ ولا عبد الباري عطوان، بل عكس ذلك تماما حيث حدث أن اقترحت السلطات اللندنية بعد ذلك على عطوان حراسة أمنية خاصة ورفض
المحطة الثانية تعود إلى سنة 2011، أسابيع بعد مقتل أسامة بن لادن على يد القوات الامريكية في بيته في أبوت اباد الباكستانية أعلن مسؤول في البيت الأبيض أن من بين المستندات التي عثرت عليها وحدات خاصة من الاستخبارات الأمريكية في بيت اسامة بن لادن في بيته، وثيقة تثبت أنه كان يخطط لهجمات في أوروبا، وفي ما يخص التواصل الاعلامي حث مناصريه في عواصم اوروبية، طبقا لنفس الوثيقة، على التعامل مع أربعة صحفيين، منهم المخضرم الأمريكي “اريك مارغوليس″، والبريطاني “روبرت فيسك”، والفلسطيني عبد الباري عطوان.
هؤلاء الصحفيون لم يعرفهم بن لادن فقط من خلال الاعلام كقارئ أو متتبع، بل قابلهم اكثر من مرة، وكانت مؤسساتهم الاعلامية تصرف عليهم مئات الآلاف من الدولارات لكي ينقلون الحقيقة من قلب أفغانستان وباكستان وأريافهما حيث كانوا يجالسون جنرالات التنظيم إياه. لم تتهم “التايمز″ التي عمل بها “مارغوليس″ كمراسل في آسيا الوسطى لمدة ثلاثة عقود، ولا “الاندبندنت” التي ما يزال “فيسك” يمطرها من الشرق الأوسط بتقارير لاذعة في حق أمريكا وحلفائها، لم يتهما أبدا بالتخابر مع منظمة إرهابية. بل العكس تماما؛ لم تتوقف الدعوات لهؤلاء الصحفيين لالقاء المحاضرات في كبرى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وتلقى محاضراتهم إقبالا كبيرا مثلما لا تزال كتبهم تعتمد كمراجع دامغة في كبرى الجامعات
ورغم أن النزاهة الفكرية تقتضي منا دائما أن نقارن أنفسنا بالدول التي تتقدمنا، ورغم أننا هنا بصدد اعتقال لصحفي على طريقة الأنظمة الشمولية، فلا بد أن تجد من يعترض بدعوى أننا ديمقراطية ناشئة، ولهذا فقد اخترنا المحطة الثالثة من علاقة الصحافة بالتنظيمات الارهابية غير بعيد عنا، في الجارة الجنوبية مورتانيا أيام هجوم “القاعدة” على عين أميناس جنوب الجزائر، وكان موقع “الأخبار” الموريتاني ينشر بشكل متواصل تسجيلات صوتية لمختطفي الرهائن، وكانت تنقلتها عنه كبرى وكالات الأنباء الدولية، ولم نسمع عن السلطات الموريتانية أنها اعتقلت أحدا من الموقع المذكور. بل إن الدكتاتورية العسكرية الجزائرية هي الأخرى لم تعتقل أيا من مديري المواقع التي نشرت تلك التسجيلات بالرغم من ان الهجوم وقع في أراضيها.
منذ متى رضي القصر المغربي ومن يرددون معه صباح مساء أنشودة التحول الديمقراطي أن تأتيهم دروس الديمقراطية وحرية الصحافة من مافيا نواكشوط والجزائر؟
قبل سنة بالتمام والكمال اعتدت شرطة تطوان على الصحفي علي المرابط، مدير موقع دومان اون لاين، قرب بيته في تطوان، وضربوه واسقطوه أرضا وركلوه ولكموه وسرقوا هاتفه المحمول وما وجدوا في جيبه من نقود. وبعدها بأيام تعرض بيته لهجوم من طرف فيلق من المخابرات وأعوان السلطة، ولما سألت مذيعة الجزيرة الاخبارية مصطفى الخلفي عن تلك الجريمة وإن كان النظام لا يخشى أن تفشل هذه الاعتداءَات التجربة المغربية، رد أنه لم يكن يعلم! وعندما سأل “روبرت كونيث”، المسؤول التنفيذي لمنظمة “هيومن رايتس وووتش” في شمال افريقيا، سأل عبد الاله بنكيران في مؤتمر “دافوس″ عن التشهير الذي تمارسه الدولة في حق الصحفيين، والتضييق عليهم، أجابه بنكيران بغير قليل من التذاكي البهلواني قائلا:” التشهير ام الاشهار؟ في الصحف المغربية هناك اشهار وليس هناك تشهير”. لا نزال نذكر الابتسامة الساخرة التي رد بها كينيث وهو يعيد طرح سؤاله، والله وحده اعلم ماذا كان يقول في نفسه وهو يستمع الى هكذا خطاب ممن يفرض انه يمثل شعبا.
هذا عن المؤسسة التي أرادوا لنا ان نسميها مؤسسة تنفيذية، أما عن القصر الملكي فإن الناطق الرسمي باسم لم نسمع له أي تصريح منذ تعيينه، حتى أن الصحفيين ومنتجي الفضائيات لم يعودوا يحاولون حتى الاتصال به لانه لا يجيب ابدا
إن التعدي على الحد الادنى من الحريات بهدف الانتقام من الأصوات المزعجة ليس جديدا على ثقافة المؤسسة الملكية لكنها هذه المرة أساءت التقدير، ليس فقط لأنها أيقظت جراح فضيحة كادت أن تعصف بعرشها، لكنها أيضا أربكت للمرة الألف حلفاءها الذين شجعوا في الداخل والخارج ما يسمى بالتجربة المغربية في الاصلاح. وهذا لا يخدم مصلحة الملكية اطلاقا.