مغاربة في معركة ¨الاسترداد الكبرى¨

متظاهرون بإسبانيا يطالبون وبوقف مصادرة البيوت من قبل البتوك بعد عجز أصحابها عن أداء الأقساط الشهرية

 

عود على بدإ

يمرُّ العمر كما لو أنه ما مر، يعود به إلى البدإ لكن بثقل التجاعيد، ووطئ الشيب الموهن، وقلة اليد والحيلة. ما أُنْفق في معارج هذا السبيل من جهد جهيد يذهب سدى، لا يراكم إلا مرارة مُعتَّقةً تزيد جرح الذكرى تورما.

الحقيبة الأولى التي طُوِيت فيها صحف الذكرى البٍكر تنفتح  من جديد، تغويه برحلة ثانية، تعود في غنج ودلال تلقي عليه بنفسها، بعد أن لمَّعت قليلا جٍلدها المخدوش بأثار الطريق الأولى، وتجملت بكحل عتيق نَفذَت صلاحيته، لكنها تضيقُ هذه المرّة عن زاده. ثمة كائنات إضافية، وخيبة رتيبة  تشد إلى الخلف، وأمل  مبحوح يتعثر في أدراج السلم الأولى، وخوف قهري يعيد رسم المصير نفسه. تيأس الحقيبة وتعود أدراجها بعد أن أَعدمت أملا بداخلها بأن تحيا من جديد.

تغير العالم، وتبدلت خرائطه، وتمنعت علامات السير فيه أن ترسم الوجهة الصحيحة. وتكلس الإحساس بالمكان، وتضاعفت رتابة الزمان، وباتت عملة الخلاص نادرة يحتكرها صناع الخراب، ومشيدوا مسالك التيه. وعلا صوت المضاربين في الريح والهواء والماء في صرعة جديدة لامتلاك الأنفاس وماجاورها.

ثمة رغبة في النهوض من جديد تتسلل غفلة إلى مركز القرار في ذهن إدريس، استدرجتها فقط أعين أطفاله الثلاث الشاردة. ينتفض عجزه في صفحة أعينهم،  يتزود من ضعفهم طاقة لقهر هذا الترنح الذي أسره في دوامته، واستعادة توازنه. عاود التحديق في أعين صغاره متلمسا صورته الجديدة كما لو أنه لم يرها من قبل: الشيب، والشفاه الجافة، والعيون المنحصرة، والجبهة المنطوية على نفسها باتت عناوين ملامحه الجديدة ، يتيه فيها قبل أن يمسك بأحرف ملامحه الأولى.

ينهار الحلم ممرغا وجهه في هذه “المكيدة”.

يغادر إدريس المقيم بفالنسية ذاته، يقاوم شراكها ويتلمس واقعه المفكك أمامه. يعود إلى أصل الداء. يتذكر للتو أنه فقد بيتا، وفقد “تحويشة العمر”. يتذكر أيضا انه كان ثمة رجال مدججون بالاوراق والوثائق، وبآليات اقتحام ومعززين بحراس وبفيلق من المصورين، ليصورا لحظة الاقتحام .  يصرخ من دون أن يسمعه أحد :”أَخرَجوني من داري بغير حقٍّ إِلاَّ أن عجزتُ عن أداء القسطين الشهريين المستحقين للبنك”، هؤلاء الأوغاد لم يمهلوني فسحة لا في المكان ولا في الزمان.

 إذا لم يقو حتى على دفع مستحقات هذا المسكن، فكيف يقوى على رد هؤلاء المقتحمين.

 ضاقت عينا إدريس بالفضاء الممتد أمامه بلانهاية، ينكسر بصره على حافة الأفق ثم يعود بهما خائبا يتحسس محيطه. أبناؤه الصغار ما بين 6 إلى 13 سنة مشدهون أمام الواقعة، يؤلمه أنهم يمرون من هذا المعبر ومن هذه الباب الخلفية للحياة.

تدبر إدريس مخرجا مؤقتا قبل يوم الخروج، ثمة من بني جلدته من اقتصموا معه المصير يأوونه إلى حين ، حتى يستعيد الأنفاس. يضيق به المكان ويزداد، لكنه يقيه من التيه على الأقل في بلاعة الحياة.

يعيد إدريس الحساب مرة ثانية، وكأنه يبحث في تفاصليه عن معجزة. يخاطب نفسه متحسرا” ثماني سنوات وأنا أدفع أجور الأقساط الشهرية، شهرا شهرا، لم أتأخر عن موعد التسديد ولا يوما واحدا”، ألكونه  تعذر علي ذلك شهورا بضعة فقط، يكون ذلك كافيا ليتسنفر البنك أجهزة  الدولة ويصدرون  معا قرارا على عجل يقضي”بحجز المنزل وطردي منه”، و الأطغى والأشد بعد فقد البيت،  انه على ذمتي،  فوق ذلك، أن أسدد ما تبقى من دين. لم تكن هذه واردة أبدا في الحسبان. ينهار الحلم ممرغا وجهه في هذه  “المكيدة”. ما كل شيئ يلمع هو ذهب.

الشيطان يختبئ في التفاصيل

ثمة “أحرف صغيرة” في تفاصيل الكلمات والوعود والعقود والعهود، ملغومة، حينما تنفجر ” تخرب بيت أبيك”. يستنتج ذلك متحسرا بعد ما نبهه إليه محاميه. وقعت الواقعة وجفت الأقلام وطُويت الصحف وغُلِّقت الأبواب، وقال له هذا المصير هِئْتُ لك.

 يوسع إدريس من حقل رؤياه قليلا، في فضاء المكان الضيق الجديد الذي يؤويه مع أبنائه الثلاثة وزوجته في انتظار خلاص يأتيه من حيث لا يحتسب، يتنقل ببصره حذرا كما لوأنه يخطو في مكان ملغوم. كل شيء أصبح يخيفه، الأشياء الصغيرة، والتفاصيل المفصلة، يتساءل منبها ذاته:”  ألا يقولون إنه في كنهها يكمن الشيطان؟”

يرتمي بصره في أحضان تلفزيون متهالك في فناء البيت مازال يقوى على حمل الأخبار وبثها. يشده شدا  في حصة خبرية،  حشد من الناس تحلقوا حول بيت يقاومون مصادرته وإفراغه من ساكنيه، لكن من دون أن يفلحوا. ثم تنتقل مذيعة الأخبار إلى خبر موال تقول فيه :” امرأة وزوجها بغرناطة ألقيا بنفسيهما من شرفة منزلها بالطابق الرابع فلقوا حتفهم”. حجم المرارة جعلت إدريس يتفهم المبرر:” البيت هو الحياة والناس لا تقوى على تحمل التشرد. الناس تفضل الانتحار”.

 تذكر المذيعة أنه” هذه المرة الرابعة التي يقبل فيها أشخاص طردوا من بيوتهم على  الانتحار إثر مصادرة بيوتهم وإخراجهم منها،  بعد أن انحسرت بين أيديهم سبل دفع الأقساط الشهرية. تبرز من بين المحتجين امرأة مسنة تمسك بقوة بميكروفون إحدى  القنوات ثم تصرخ: “مجرمون وقتلة”. فَهِم إدريس أن كلامها موجه إلى البنوك ومن يبرر سياسيتها. تَفَهمها ووجد في نفسه انتصارا قويا لها حتى دون أن يعرفها، استشعر انه استمد منها على الأقل القدرة على الصراخ وتوجيه اللوم والمحاسبة.

عيون الأطفال  “أقوى من القدر”.

يحدق في أبنائه الذين يستطلعون في ملل فضاء الغرفة الجديد، لم يستوعبوا ما يحدث لهم، لكنهم قرأوا في أعين أبيهم أن ثمة قدرا مقدورا لا طاقة لهم به. لا يرى وهو يتفرس ووجوههم  أن الانتحار سيكون مخرجا لطيفا، من يكون لهم من بعده؟. يسترجع صورة المرأة الإسبانية المسنة وهي تصرخ  في وجوه العالم ثائرة ومتمردة، ويحتفظ من صورتها تلك بقدرتها على الصراخ وتوجيه اللوم وبث ما في نفسها من شكوى ونجوى.

  تتوارد الأخبار تباعا، وفي ساعة الذورة  الزوالية مازالت مصادرة البيوت من قبل البنوك بعد عجز أصحابها عن سداد الأقساط  الشهرية، الخبر الرئيس يستدرج، خوفا وابتزازا، اهتمام  المشاهدين، يجود بها التلفزيون بسخاء كبير، فبدوره يغنم من هذه المحن. ثمة تخمة من هذه الأخبار:  صور وصراخ وتصادم وتدافع وشتم وسب وكر وفر … ، تُصوِّر أبشع الامتدادت الاجتماعية للأزمة المالية والاقتصادية.

يكتشف أدريس انه ليس وحيدا  في المحنة ثمة  كما ورد في التقارير المرافقة أن ما يزيد عن  350 ألف منزل جرى إخراج أهله منه  بالقوة  بعد عجزهم عن تسديد الأقساط الشهرية، فيما ينتظر أن يجري تنفيذ حوالي 200 ألف حكم اخر يقضي بإلإفراغ.

امله ينقشع مع وجود مغاربة لجأوا إلى القضاء الأوروبي، ثم يستمد قوته من عيون أولاده ليقرر المواجهة والكفاح من أجل استرداد حقه بدل العودة إلى بلده يحمل ذيول الخيبة. تنبعث المرأة المسنة وهي تنتفض ضد  طرد الناس من بيوتهم بسبب عجزهم المالي. يتفرس جبهات المعركة الأخرى: الانتحار لم يُغوِه كثيرا، عيون أبنائه الثلاثة الشاردة  أخمدت فيه” الشجاعة ” على تنفيذ ذلك”، يتساءل في نبرة بعد أن استشعر انه قد امتلأ حكمة: “من لهم بعدي”؟.

ثمة نور، ثمة حياة… ومُتَّسعٌ للمناورة

تختمر بداخل إدريس فورة أكبر، تحمله على مواجهة قدره بحكمة أبلغ، يدخل في جوفه ما يطيقه صدره من الهواء، ثم ينفثه بتدرج وكأنه يتدرب على التحكم في أنفاسه. يقنع ذاته بأن هناك معركة وأن لها جولات. الناس تصرخ وتحتج، وتتظاهر ولا تصمت، لا تلقي بنفسها في عزلة  وتجتر في يأس خيبتها. المرأة العجوز صرخت وأخذت بقوة ميكروفون قناة تلفزيونية وصرخت ملئ صوتها :” لصوص ، مجرمون”. يتراكم كل هذا في جوفه ويحدث بداخله مخاضا.

في غرفته التي أعارها إياه مواطنه المغربي حتى يتدبر مخرجا، يتسلل ضوء من فرجة لم تمتد إليها حواشي أستار النافذة، فسمحت أشعتها أن تُخرج فناء الغرفة من عزلتها، يمتد الضوء المتسلل حتى لامس الباب، يُحدث مساحة من الضوء،  انعكس بعضها على ذهن إدريس بمسحة من الصفاء، وتطهر من بعض رواسب اليأس. مصدر الضوء نبهه أن خارج الغرفة ثمة حياة ، وثمة فرصة وثمة فضاء ومتسع للمواجهة والمناورة، وإيجاد حل بدل الاستسلام لظلمة الغرفة التي بدأت مع زحف الزوال تتعتم.

إدريس وزوجته باتا منكبين على معرفة  آخر الأخبار، التلفزيون يطل بهم على  العالم ، ويضعهم في مجرى الأحداث والوقائع والتطورات. التاسعة مساء تقدم نشرات الأخبار المفصلة في معظم القنوات الإسبانية، وهي ساعة ذورة، تسمرت عينهما على الشاشة الصغيرة يتابعان التفاصيل، يطل إدريس  يمينا إلى الباب، كانه سمع شيئا، فتجذبه زوجته وتُعلمه أن نشرة الأخبار قد بدأت. كانت تطورات أحداث الإفراغ القضائي في حق عدد من السكان بعد عجزهم عن اداء أقساطهم الشهرية، المادة الإخبارية البارزة.

عزيز يغير قوانين العالم

 تبدأ مذيعة نشرة الاخبار تقريرها قائلة:” هل كان من الضرورة أن ننتظر حتى يأتي مواطن مغربي لينقذ مئات الآلاف من الإسبان من شبح التشرد ويغير قانون القروض والرهن العقاري “. لم يفهم إدريس ولازوجته التي حدجته بنظرة تستفسره عما حمله هذه المواطن المغربي إلى الإسبان، ثم يتابعان بتركيز وفضول أشدين لمعرفة ما إذا كان الخبر يحمل إليهما نفعا.

تتابع المذيعة :” لجأ عزيز وهو مهاجر مغربي متضرر من المصادرة القضائية لبيته إلى القضاء الإسباني لإلغاء المتابعة المالية معتبرا إياها تعسفا حقيقيا ضد المستهلك الذي فقد منزله. ولم يتردد في نقل ملفه الى المحكمة الأوروبية بعد مصادقة القاضي الذي كان يشرف على الملف والذي بدوره أرتأى أن القانون الإسباني يطبعه التعسف ولا يحمي المستهلك نهائيا.

” وتضيف المذيعة :”إن حكم المحكمة الأوروبية لصالح عزيز قد أنقذ عشرات الآلاف الإسبان من التشرد ومن نظام مصادرة البيوت وكذلك من الذمة المالية، بعد أن طعن في نظام التعاقد البنكي واعتبره يخرق قانون الاستهلاك”.

انتاب إدريس شعورغامر بسعادة مفاجئة تقاوم الحواجز النفسية لتحط في أعماقه، انتصب ما تبقى في رأسه من شَعَرٍ تائه، وسرت في كل جسده قشعريرة كما لو أنه ينتفض من لوثة جبن، وتيه وحيرة. يبدو إدريس كما لو أنه أمسك بحبل  متين كان يتحسسه في ظلمة، فيقبضه ويعض عليه بالنواجد. يعدل من جلسته متأهبا بهمة أكبر لمزيد من الاستماع والمتابعة، عادى زوجته بالشغف ذاته وتنبه الأبناء إلى هذه الرعشة الجديدة تسري في الغرفة التي تقاوم زحف الليل المعتم، انعكست على صفحة اعينهما بريقا خجولا لكنه يقاوم معقله للانطلاق بجموح أكبر.

الخروج من العتمة

تعرض القناة الاخبارية عناويين صحفية كتب عليها بالبنط العريض ” عزيز يغير قانون الرهن العقاري في إسبانيا “، في صحيفة الباييس و في إلموندو و في أ بي سي، كلها لم تجد عنوانا اكثرا تعبيرا من عمق ما حمله هذا المهاجر المغربي وما أحدثه،  من عبارة ” عزيز يغير قوانين الرهن العقاري في إسبانيا وينقذ ألاف الأسر من التشرد”.

ابرقت هذا العبارة في ذهن إدريس إشارة، وأرعدت في مخاض التحول الذي أحدثته في إدراكه شرارة وعي جديد ، حررت حواسه  من تمرد سلبي  لايبرح كونه الصغير، وأطلقت به جامحة إلى رحاب الفعل. يعيد تفكيك المشهد قليلا وكأنه يمعن في التللذ بالعبرة.:” عزيز مغربي مثلي، مهاجر بمثل أحوالي، ضحية على شاكلتي، لكنه يختلف عني كونه لم يسكن إلى ألمه، ولم يركن ليندب حظه، بل انتقل إلى الفعل واستثمر ما أمكن من السبل  لاسترداد حقه، وكان الحصاد له ولغيره”.

عادت المرأة المسنة لتنبعث من جديد في مخلية إدريس، تنبعث كما رآها على شاشة التلفزيون وهي تسحب الميكروفون من قناة تلفزيونية لتعبر بلمئ فمها عن غضبها وتمردها، وتصرخ في وجه العالم عله تصله فصول محنتها.

يسترفد إدريس من تجربة عزيز وثورة العجوز، عناصر قراره الجديد، يحول بصره إلى عيني زوجته وكأنها على اتصال ذهني به، أَوْمَأَتْ إليه مُبارِكة ما يختمر بداخله من أسباب الفعل والخروج من عتمة الغرفة، ثم يمسح ببصره ملامح ومحيا أبنائه الثلاثة. يمتح من ضعفهم قوة المضي قدما، فينتصب واقفا، ويفتح الباب كاملا على غرفته المعتمة، ويستنشق هواء متسللا من شباك نافذة في أقصى الجدار المقابل. يقتفي أثر الضوء الممتدء مثل صراط مستيقم حتى يبلغ الباب الخارجي. يقرر أن يخرج ويصرخ مثل الناس، وأن يحتج ويتضامن مع من مسهم قرح البنوك، قرر أن يضيف قضيته إلى الناس مثلهم ويحملها معهم إلى الحدود المتاحة.

Sign In

Reset Your Password