لم تقتصر النزعة الاستشراقية على الدراسات الغربية التي تناولت الأبعاد التاريخية والاجتماعية والسياسية للحياة في العالم العربي والإسلامي، بل تجلت بقوة في أعمال العديد من الفنانين التشكيليين الأوروبيين البارزين الذين فتنتهم مشاهد من هذه الحياة فجسدوها لوحات خالدة في ذاكرة الفن التشكيلي العالمي.
في العاصمة المغربية الرباط، يدعو البنك القومي جمهور الفن ونقاده إلى متحفه لاكتشاف مجموعة هامة تضم أشهر اللوحات التي شكلها فنانون أوروبيون وثقوا اصطدامهم بواقع المملكة، خصوصا في بدايات القرن العشرين، من خلال رسومات تناولت جوانب مختلفة من حياة الإنسان المغربي، خاصة في عمقها التراثي والطقوسي.
في معرض “ترحال.. المغرب بعيون الفنانين الاستشراقيين” تلتقي العين بالأزياء التقليدية، وبأجواء من ساحة الفروسية، والمرأة بزينتها المحافظة، والمعالم العمرانية بهندستها الأندلسية، ومشاهد بانورامية حضرية أو طبيعية، وغيرها مما التقطته عيون فنانين ربطتهم صلة إبداعية خاصة بالعالم العربي، من خلال بلاد المغرب، التي لا يفصلها عنهم سوى بضع كيلومترات عبر البحر المتوسط.
تنوع المرجعيات
وإن كان الفن الاستشراقي، على غرار باقي الإنتاجات الثقافية الغربية التي اتخذت المجال العربي الإسلامي موضوعا لها، يُقابل بنظرة متحفظة في أوساط واسعة من النقاد بداعي طابعه التصويري الفولكلوري ومنظوره الغرائبي الذي يداعب أفكارا مسبقة وإرثا ذهنيا جماهيريا في أوروبا، فإن المعرض يدعو إلى تنسيب الأحكام الموجهة تجاه هذا التيار الواسع في تاريخ الفن التشكيلي، الذي تتنوع مرجعياته وأساليبه.
يكتب الناقد الفني المغربي فريد الزاهي تقديما للمعرض الذي يظل مفتوحا إلى 15 نوفمبر المقبل، أن الشرق ظل موضوع جاذبية وافتتان للنظرة الغربية.
ويضيف الزاهي “وبما أنه عالم غريب وعجيب وغامض، سواء بعاداته وتقاليده أو ثقافته وروحه، فقد كان الشرق أحيانا مصدرا للاستيهامات والفضول، وغالبا للأحكام المسبقة ذات الطابع المركزي العرقي”.
منظور رومانسي
ويستطرد قائلا نظرا إلى أن الاستشراق في مجال التصوير ناجم عن منظور رومانسي حماسي، فقد سلط على المغرب، وأيضا على طبيعته وأناسه، نظرة مطبوعة بـ”الاستيهامات”، بيد أنها نظرة ظلت أيضا حريصة على تصوير غرابة هذا العالم “البدائي”.
لكن الاستشراق، يقول الزاهي، هو أيضا “ذلك المسعى الذي بلور من خلال الرحلات والاستكشافات نظرة تركت لنا تراثا تصويريا قريبا من الواقع، بحيث يمارس عليه تأويلا ذاتيا، ويبتكره من جديد ويعمل على كشفه لنا”.
من هذا المنطق يكون المعرض سفرا يضع الجمهور أمام ثراء هذا الموروث البصري، وتنوع مضامينه وأصالة نظرته، وهي نظرة متعددة تبلور ذاكرة تشكيلية تستحق الاهتمام.
وفي سياق الاعتراف المنصف بعطاءات الاستشراقيين ومساهمتهم التأسيسية في الحقل التشكيلي المغربي والمغاربي بوجه عام، يقول فريد الزاهي إنه “بفضل هؤلاء الفنانين الاستشراقيين عرف المغاربة فن التصوير الذي ظل على مدى قرون عديدة خاضعا للتحريم، كما بفضل الفنانين الغربيين المستقرين بالمغرب أيضا دخل فنانو الأجيال الأولى مجال فن الرسم والتشكيل”.
بالنسبة للناقد الذي أشرف على تنظيم المعرض، بموضوع لا يخلو من حساسية، يكتسي الموعد أهمية خاصة لكونه يستعيد ذاكرة الاستشراق في بعده الفني التشكيلي ويحاول أن يخرج تراثه من النظرة السلبية التي سادت لدى من يتعاملون مع إبداعات صارت تعد تراثا فنيا مشتركا