لم يعد سرّا فشل كافة محاولات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أن حدثت النكبة قبل ثلاثة أرباع القرن. فمنذ العام 1948 بذل داعمو الاحتلال جهودهم لتحقيق عدد من الأمور:
أولها ضمان أمن الاحتلال، ثانيها: توفير شرعية سياسية دولية له، ثالثها: تطبيع وجوده بإجبار الحكومات العربية للاعتراف به ومد الجسور معه. رابعا: تكثيف الضغوط على الفلسطينيين بدون توقف، بما في ذلك القتل المتواصل لأبناء فلسطين، خامسا: إبقاء العالم العربي مفككا لمنعه من التوافق على مشروع تحرير عربي شامل يدعم أهل فلسطين ويعاقب داعمي الاحتلال. برغم هذه الجهود التي ربما لم تتوفر لأية قضية أخرى في العالم، ما تزال قضية فلسطين عنوانا دوليا لها دلالات عديدة. فهي مصداق للعدوان، وعنوان للتحرر وتجسيد للحالة الثورية لدى الأفراد والمجموعات، ومؤشر لمصداقية الحكومات والدول ومدى احترامها القيم الإنسانية، وأحد عوامل إضعاف العامل الدولي المشترك متمثلا بمنظمة الأمم المتحدة التي عجزت عن حل الأزمة، وتحدٍّ للضمير الإنساني ماضيا وحاضرا.
ومن آخر المحاولات في هذا الطريق المسدود طرح ما سمي «الديانة الإبراهيمية» بعد أن اتضح دور الدين في رفض الاحتلال ودفع أتباعه لتحرير الأرض. ويكاد يكون هناك إجماع على أن الهدف الأول لهذا المشروع الذي تكرر طرحه منذ عقود، لكنه اتخذ شكلا واضحا وبعدا دوليا في الأعوام الثلاثة الأخيرة، إنما هو التطبيع مع محتلي فلسطين. ويمكن القول كذلك إن محاولات ترويج الحوار الديني المشترك تعثرت كثيرا ليس بسبب الجانبين المسلم والمسيحي، بل الجانب اليهودي. فهناك إجماع على رفض معاداة السامية وشجب ما تعرض له اليهود من اضطهاد في أوروبا، ولكن تغلغل الصهيونية في المسار اليهودي العام، أدى لتعقيد مشاريع الحوار. فمنذ أن ألغت الأمم المتحدة مبدأ اعتبار الصهيونية أحد أشكال العنصرية أصبح التيار الديني اليهودي العام تحت هيمنة التوجهات المتطرفة، وأصبحت المؤسسة اليهودية حاضنة للصهيونية. وبذلك تعثرت جهود الحوار الديني كثيرا.
فهذا الحوار يُفترض أن يلتزم قيم العدالة والحرية ورفض العدوان والاحتلال، وما دامت قضية فلسطين مستمرة، فإن أية جهود تصطدم بالجانب اليهودي الذي يرفض انتقاد السياسات الإسرائيلية. بل أن انتقاد السياسات الإسرائيلية أصبح يعتبر معاداة للسامية.
وقد تذاكت الأطراف التي تعمل لإعادة احتضان الاحتلال على المستوى الدولي بطرح مشروع الديانة الإبراهيمية لكسر حالة الجمود في الجهود الدولية الهادفة لجعل الاحتلال أمرا مقبولا من الناحيتين السياسية والدينية. فجاء الطرح هذه المرة من الجانب الأمريكي الذي ما فتئ يدعم المشروع الصهيوني الذي يجسد احتلال فلسطين أبشع مصاديقه. وفيما كان العالم في غفلة عن أهمية البعد الديني في الصراع السياسي الدولي، برز اسم النبي إبراهيم عليه السلام كجامع للديانات التوحيدية. لكن هذا الطرح جاء بعد توقيع كل من دولة الإمارات والبحرين اتفاقية التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، الأمر الذي دفع الكثيرين للتشكيك في دوافعه. واتسمت أغلب ردود الفعل برفض المشروع واعتباره تسييسا للدين واستغلالا لمشاعر الناس تجاهه. فلا شك أن هناك رغبة جامحة للتقريب بين الأديان، خصوصا المسيحية والإسلام، ولكن التقريب يختلف عن دمج الأديان وتوحيدها في دين واحد. وتعدد الأديان ليس مشكلة أبدا، إنما المشكلة في الصراعات التي تحدث باسمها، وإضفاء صفة الشرعية والقداسة على ذلك. فقد نشات الأديان التوحيدية المؤسسة على رسالة النبي إبراهيم في فترات متباعدة من التاريخ، تتجاوز الألف عام. فالتعدد الديني يوفر مناخات ثرية بالحوار وتبادل الخبرات والمعتقدات، خصوصا أن منشأها واحد.
وثمة إدراك باستحالة توحيد الأديان أو المذاهب أو حتى الكيانات السياسية القائمة. ويرفض البشر عادة أي توجه لإلغاء الكيان الذين ينتمون إليه، الديني أو السياسي. وما الحرب الأوكرانية المشتعلة إلا تأكيد لاستحالة فرض التوحد، أيا كان شكله، على البشر. كما أن الأزمة التي نشبت بعد الاجتياح العراقي للكويت في 1990 تؤكد كذلك استحالة إلغاء الحدود الجغرافية والسياسية بين الدول، برغم أنها من صنع الإنسان، ولا تحظى بقداسة سماوية. والتأكيد الإلهي لضرورة تنوع ثقافة الجنس البشري يؤكد كذلك الرغبة الإلهية في تحريك مشاعر البشر نحو الحوار والتفاهم والتقارب، مع الحفاظ على الخصوصيات. ولذلك أصبح واضحا أن من يدعو لإلغاء الفوارق الطبيعية بين البشر واهمٌ في مسعاه، فذلك جزء من هوية الأفراد والكيانات السياسية، ولا تؤدي محاولات القفز عليها إلا للمزيد من الخلاف والاختلاف والتشرذم وربما الأحقاد المدمّرة. وقد أدرك العقلاء الدوافع غير المقدسة وراء إطلاق دعوة الديانة الإبراهيمية، واعتبروها واهمة ومثيرة للشك واللغط، وبدوافع سياسية، تهدف لفك الحصار على الاحتلال من قبل شعوب العالم. وكان بإمكان زعماء الغرب إطلاق دعوات جادة للحوار الديني وعقد المؤتمرات والاتفاقات الدولية لتجريم التعدي على المعتقدات والأديان.
أما الثقافة السياسية التي تسمح للبعض إثارة مشاعر البعض الآخر عن طريق الاستفزاز واستهداف المقدسات والنيل من المعتقدات، كما حدث وما يزال يحدث في الغرب فهو الوجه الآخر لمشروع الديانة الإبراهيمية. فما الرسالة التي يبعثها الغربيون للعالم حين يحرقون القرآن الكريم؟ أو عندما ينشرون الرسوم الكاريكاتيرية التي تستهزئ برسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام؟
من هنا كان موقف علماء المسلمين إزاء الدعوة للديانة الإبراهيمية حاسما. فالدكتور محمد الطيّب، شيخ الأزهر في 2021 ذكر أن هناك «خلطا بين التآخي بين الدينين، الإسلامي والمسيحي، وبين امتزاج الدينين وذوبان الفروق والقسمات الخاصة بكل منهما، خاصة في ظل التوجهات والدعوة إلى الإبراهيمية»..
وقال إن الدعوة لـ«الإبراهيمية» «تبدو في ظاهر أمرها دعوة للاجتماع الإنساني والقضاء على أسباب النزاعات والصراعات، وهي في الحقيقة دعوة إلى مصادرة حرية الاعتقاد وحرية الإيمان والاختيار». وتعددت مصادر انتقاد المشروع حتى من غير المسلمين. فقال القبطي المصري، الراهب القمص بنيامي، أن «الديانة الإبراهيمية دعوة مسيّسة تحت مظهر مخادع واستغلال للدين».
وفي شهر فبراير 2022 عقد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورابطة علماء المسلمين، ورابطة المغرب العربي مؤتمرا حول موقف الأمة الإسلامية من الديانة الإبراهيمية، وأصدر بيانا ختاميا جاء فيه: أن السعي لدعم «اتفاقات أبراهام» للتطبيع والتَّركيع عَبْر تسويقٍ لدينٍ جديدٍ يؤازر التطبيع السياسي هو أمر مرفوض شكلاوموضوعًا، وأصلاوفرعًا؛ ذلك أن الأمة المسلمة لم تقبل بالتطبيع السياسي منذ بدأ أواخر السبعينيات من القرن الميلادي الفائت، ولن تقبل اليوم من باب أَوْلَى بمشاريع التطبيع الديني، وتحريف المعتقدات.
وتجدر الإشارة إلى أن طرح الديانة الإبراهيمية ليس جديدا بل تم تداوله منذ أكثر من قرن. فقد طرح في العام 1811 في أوروبا ما سمي «الميثاق الإبراهيمي» الذي يؤكد أن الله وهب إبراهيم الأرض والذرية وأنه سيكون رحمة لجميع الأمم، وأن ذلك الفهم يجمع المؤمنين في الغرب. وفي العام 1949 رسّخ المفكر الفرنسي لويس ماسينيون في مقالة بعنوان: «الصلوات الثلاث لإبراهيم، أب كل المؤمنين». وقد أظهر البعد السياسي لهذه الأطروحة الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، في العام 1985 من خلال كتابه «دم إبراهيم» الذي تحدث فيه عن اتفاقات كامب ديفيد. وفي العام 2004 أطلقت جامعة هارفارد «مبادرة مسار الحج الإبراهيمي» بدعم من مشروع التفاوض الدولي في كلية الحقوق في جامعة هارفارد وبمشاركة عالمية لباحثين ورجال دين وأعمال وخبراء في السياحة البيئية وآخرين.
وهدف المبادرة هو افتتاح مسار، سيراً على الأقدام، يسلك مواقع ثقافية ودينية وسياحية تتبع خطى النبي إبراهيم عليه السلام منذ أكثر من أربعة آلاف عام، ويبدأ المسار من مدينة أور العراقية مروراً بإيران وسوريا وصولاً إلى مدينة الخليل الفلسطينية حيث يُعتقد أن قبر النبي إبراهيم الخليل هناك.
وهكذا يبدو المشروع الإبراهيمي منذ انطلاقته مرتبطا بشكل أو آخر بمسارات التطبيع، مع اختلاف في التركيز على ذلك البعد. ولذلك لم يكن غريبا أن تتحسس قطاعات الأمة مجددا عندما طرحت أمريكا مقولة «الديانة الإبراهيمية الجديدة» كمنطلق لإلغاء الحواجز النفسية والسياسية بين العرب و«إسرائيل» كخطوة ضرورية للتطبيع مع الاحتلال والتنازل التدريجي عن فلسطين التي استعصت على كافة محاولات الإلغاء طوال ثلاثة أرباع القرن. إن حوار الأديان الإبراهيمية مطلوب وضروري، ولكن بشرط أن لا يكون مرتبطا بهدف سياسي، لأن ذلك تسييس قذر للدين الإلهي وزجٌّ باسم النبي إبراهيم عليه السلام في قضية تتحدى ضمير العالم، ولا يرضى بها النبي إبراهيم نفسه. لقد ولد المشروع ميّتا، ولا يتوقع له الحياة بعد ان رفضه المسلمون وقطاع غير صغير من المسيحيين.