شهدت الغابون، اليوم الأربعاء، انقلابا عسكريا، يعتبر الخامس من نوعه خلال السنتين الأخيرتين في القارة السمراء. وتختلف الانقلابات الجديدة عن السابقة التي كانت تجري سواء في إطار الحرب الباردة أو الحقبة اللاحقة لها، إذ تحمل مشعل الديمقراطية ضد فساد المدنيين.
وعمليا، الغابون من الدول التي كانت تشهد استقرارا سياسيا بسبب الحكم الطويل لعائلة بونغو، التي تحولت إلى ما يشبه العائلة الملكية، إذ حكم الأب من 1967 إلى 2009، وتولى الابن علي بونغو رئاسة البلاد من سنة 2009 الى الانتخابات التي جرى الإعلان عن نتائجها الثلاثاء ومنحته الفوز، وأعقبها الانقلاب في اليوم التالي.
وبينما يتابع المنتظم الدولي كيفية معالجة الانقلاب العسكري في النيجر ضد الرئيس بازوم واحتمال التدخل العسكري، يتفاجأ بوقوع الانقلاب في الغابون. ومن المفارقات المثيرة هو إصرار الرئيس الغابوني قبل الانقلاب على التدخل العسكري في النيجر لإعادة الرئيس محمد بازوم.
وكان الاعتقاد السائد خلال السنوات الأخيرة هو تراجع المؤسسة العسكرية الى الوراء وفتح المجال أمام الديمقراطية. ومما عزز هذا التوجه هو تراجع نسبة الانقلابات، غير أن وقوع خمسة انقلابات عسكرية في ظرف سنتين في كل من غينيا (2021)، ومالي (2021)، وبوركينا فاسو (2022)، والنيجر (2023)، والآن الغابون، دون استبعاد انقلابات أخرى في دول المنطقة ضمن “لعبة الدومينو”، يعيد النقاش حول المؤسسة العسكرية إلى الواجهة ودورها.
ويبقى المثير هو نزول فئة من الشعب إلى الشارع للتصفيق للانقلاب وتأييده، كما حدث في النيجر ويحدث الآن في الغابون. وتعتبر القارة السمراء مسرح الانقلابات منذ حصول الدول على استقلالها عن الغرب، غير أن طبيعة الانقلابات الأخيرة تبقى مختلفة. ومن خلال متابعة تصريحات المسؤولين عن الانقلابات العسكرية ولاحقا القرارات التي يتخذونها، يمكن رصد أهم عناصر الخطاب السياسي والدوافع التي تقف وراء هذه الانقلابات وهي:
في المقام الأول، تنفيذ الانقلاب باسم الدفاع عن الديمقراطية بحكم وجود حاكم مدني فاسد يقوم بتزوير الانتخابات، وهذا تجلى بوضوح مثلا في حالة الغابون حيث يصر علي بانغو على الاستمرار في الحكم ويغير الدستور للبقاء فترة أطول.
في المقام الثاني، تفكيك البنيات المدنية المحيطة بالرئيس ومنها حتى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بحكم التورط في الفساد وحمايته على حساب التنمية في البلاد وحقوق الشعب، إذ لم تعد المؤسسة العسكرية ترضى عن نفسها أن تكون حامية فساد الأقلية ضد الشعب. وارتباطا بهذا، اكتسبت المؤسسة العسكرية وعيا في مواجهة الفساد لاسيما بعدما أصبح معظم الجنود يعانون مثل الشعب من الغلاء واقتصاد الريع.
في المقام الثالث، رفع شعار استقلالية القرار السياسي عن قوى أجنبية، وفي هذه الحالة عن فرنسا بحكم وقوع أغلبية الانقلابات في دول إفريقية تصنف بالفرنكفونية لأنها كانت مستعمرات فرنسية سابقا. ولهذا، هناك اتهامات بالخيانة العظمى ضد بعض المسؤولين المدنيين بالعمالة لباريس.
في المقام الرابع، غياب قبضة حديدية وعنيفة من المؤسسة العسكرية ضد وسائل الإعلام والمعارضة بل حتى مع الأحزاب التي تكون موالية للرئيس المخلوع.
ومن ضمن الأمثلة، شهدت بوركينا فاسو انقلابا سنة 2022، لكنها وفق “مراسلون بلا حدود” لحرية التعبير للعام 2023، احتلت المرتبة 58 متقدمة على جميع دول المغرب العربي وباقي إفريقيا. وكانت غينيا تحتل المركز 84 في 2022 وتراجعت بنقطة واحدة في 2023 إلى 85، بينما تراجعت بعض دول المغرب العربي كثيرا. التعاطي اللين مع المعارضة ووسائل الإعلام من أبرز مميزات الانقلابات العسكرية الأخيرة. ويبقى هذا المعطى مؤقتا في انتظار ما سيقع مستقبلا إذا لم يلتزم الجيش بالفترات الانتقالية التي يعلن عنها لتسليم السلطة للمدنيين.