تعيش اسبانيا هذه الأيام ثورة حقيقية ضد الفساد المالي واستغلال النفوذ في ارتباطه بالسياسيين يشمل الملكية ورئاسة الحكومة وأحزاب، وهذه الظاهرة الصحية التي تعيشها الديمقراطيات هي من ضمن الأسس التي تجعل الثقة تتعزز في المؤسسات وتشكل المعنى الحقيقي للوطنية.
واقتصارا فقط على سنة 2025، يسجل القضاء نشاطا ملفتا في إسبانيا بشأن التحقيق في قضايا الفساد وملاحقة مرتكبيها قانونيا في ملفات عديدة كبرى، ويجري التركيز أساسا على ما يسمى “الفساد العام”، ويعني تلك الجرائم التي يرتكبها المسؤولون من وزراء ونواب برلمان ورؤساء حكومات الحكم الذاتي ووزرائهم ومدراء الأبناك، الذين أنيطت بهم تسيير شؤون العامة والحفاظ على ممتلكات الشعب. ومن ضمن الأمثلة، يحقق القضاء الإسباني في استغلال زوجة رئيس الحكومة بيدرو سانشيز للنفوذ في ماستر في الجامعة في مدريد، لا يتعلق الأمر باختلاسات بل استغلال نفوذ فقط. كما يحقق في تورط نائب برلماني يعتبر الرجل الثاني القوي في الحزب الاشتراكي الحاكم في الحصول على نسب مئوية في صفقات عمومية، وهي الفضيحة التي كادت أن تسبب في انتخابات سابقة لأوانها بداية الشهر الجاري. وانفجرت فقط منذ أيام فضيحة محاكمة وزير المالية الأسبق مونتورو بتهمة استغلال بيانات مصلحة الضريبة لسن قوانين لصالح شركات كبرى، حيث استفادت من تخفيضات تتجاوز ملياري يورو. والقضاء الإسباني مثل القضاء الأوروبي يقوم بالدور المناط به وفق الدستور والقوانين المنظمة للعمل العام في البلاد، غير أن إيقاع القضاء في مواجهة الفساد المالي والإداري ارتفع في اسبانيا وباقي أوروبا مؤخرا لأسباب متعددة ولكنها جوهرية ، وعلى رأس هذه العوامل نجد ما يلي:
في المقام الأول، تؤكد التجارب أن ارتفاع الفساد يؤثر على صورة الدولة ويفقد المواطنين الثقة في المؤسسات. وكتبت جريدة الباييس في افتتاحيتها الأحد الماضي أن “كل ملف فساد للأحزاب الديمقراطية ينعش التطرف اليميني القومي في البلاد”. ويوجد وعي أن محاربة الفساد لم تعد عملا انتخابيا يوظفها هذا الحزب ضد الآخر في الانتخابات بل أن تورط مختلف الأحزاب السياسية في الفساد هو ضربة خطيرة للنظام الديمقراطي. وعمليا، في الدول الغربية، تبين أنه من ضمن الأسباب الرئيسية لظهور اليمين القومي المتطرف هو تفاقم الفساد المالي والإداري للأحزاب السياسية الكلاسيكية من يمين ويسار. ويكفي أن الفساد أصبح ضمن المشاكل الكبرى التي يخشاها المواطنون الى جانب الهجرة والبطالة، ويستغل اليمين هذا الكوكتيل من المشاكل ويربط بينها وينتعش ويقنع أنصارا جدد للالتحاق بصفوفه.
في المقام الثاني، تنظر المؤسسات التي تشكل عماد البلاد مثل الجيش والاستخبارات الى الفساد بأنه أخطر بكثير من الإرهاب، لأن مواجهة الإرهاب عملية سهلة وتتطلب مستوى من الاحتراف الأمني والاستخباراتي وقوة القانون لتفكيك الخلايا. وعادة ما يكون تأثير الإرهاب محدودا في سقوط ضحايا. في المقابل، يتطلب محاربة الفساد عزيمة قوية لأنه متغلغل في المؤسسات ويجب رصده وملاحقته بدون هوادة، ويكون الضحية هو المؤسسات والشعب برمته. ذلك أن التساهل مع الفساد المالي وسط الطبقة السياسية يترجم لاحقا عبر تضرر قطاع مثل الصحة والتعليم والتسلح والمساعدات الإجتماعية بسبب تراجع عائدات الضرائب، وعادة ما يميل الفاسدون الى كنز الأموال في منازلهم أو تهريبها الى الخارج ولا يستفيد منها أحد بل حتى الفاسد تكون استفادته منها محصورة. ونتذكر حالة الرئيس الليبي معمر القذافي، رفع شعارات ضد الغرب وخبأ في أبناك الغرب عشرات الملايير من الدولارات تبخرت باغتياله، وجرى السطو عليها ولم يظهر منها إلا النزر القليل حتى الآن.
وفي المقام الثالث، تبرز التجربة أن المسؤولين عادة ما يقومون بتهريب الأموال الى الخارج. وعليه، إن تهريب هذه الأموال من طرف المسؤولين يتجاوز الجريمة الاقتصادية التي تضر بخزينة الدولة وتعيق التنمية الى مستويات أخطر تتخذ أبعادا أمنية معقدة قد تمس سيادة الوطن واستقراره. ذلك أن المسؤول الذي يخبئ ثرواته في حسابات مصرفية أجنبية أو يستثمرها في الخارج بطرق غير مشروعة يضع نفسه تحت تهديد دائم من أجهزة المخابرات الأجنبية، التي قد ترصده وتجمع الأدلة ضده. وفي حال وقوعه تحت طائلة الابتزاز، فإنه يصبح أداة طيعة بيد جهات معادية قد تضغط عليه للكشف عن معلومات حساسة أو لتمرير قرارات وسياسات تضر بالأمن القومي للبلاد. وهكذا، فإن تهريب الأموال من طرف المسؤولين لا يتوقف عند حد الإضرار بالاقتصاد، بل قد يتحول إلى مدخل خطير لاختراق الأمن القومي، عبر ابتزاز من يفترض أن يكونوا في مواقع حماية الوطن، مما قد يؤدي إلى تسريب أسرار الدولة أو التأثير في القرارات السيادية.
وهكذا، سنجد في الدول الغربية شجاعة الشرطة في التحقيق وقوة القضاء في محاكمة الفاسدين لو كانوا ملوكا مثل حالة الملك الأب خوان كارلوس في إسبانيا أو رؤساء والرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي دون الحديث عن الوزراء. في المقابل، نجد في العالم العربي كيف لم تتحرك الشرطة ولا تحرك القضاء للتحقيق والمحاكمة رغم ملفات الفساد التي كشفت عنها ويكليس والحسابات السرية في سويسرا ووثائق بنما وفضائح محلية كثيرة مثل جبروت لأنه يوجد “فساد مقدس” لا يتم الاقتراب منه.
لم تعد عملية محاربة الفساد ولاسيما التهرب الضريبي وتهريب الأموال للخارج ذات أولوية اقتصادية، بل هي في العمق أساسا ضرورة أمنية من الدرجة الأولى، فهي تحصن البلاد من الانهيار الداخلي بسبب غياب الثقة في المؤسسات، والتدخل الخارجي بسبب خرق الأمن القومي. وإذا أردت معرفة مستوى درجة الأمن القومي لبلد ما ومنها الاحتقان الاجتماعي، يكفي أن تعرف هل يمتلك مسؤولوه حسابات سرية في بنوك أجنبية وعقارات في أسماء أبنائهم.
إن الوطنية الحقيقية ليست مجرد رفع شعارات براقة بل تتجلى أساسا في محاربة الفساد لتحصين الوطن داخليا وخارجيا من الانهيار.