اعتاد الإعلاميون والمحللون العرب رؤية العالم بأعين غربية، وبالأساس أعين أنكلوسكسونية ونسبيا فرانكفونية. يحدث هذا رغم التطورات الجارية في العالم في الوقت الراهن، التي تشهد بداية حقيقية لعالم متعدد الأقطاب.
واستمرار اعتماد هؤلاء على الإنتاج الفكري والاعلامي الغربي، سيجعل الرؤية تستمر قاصرة ومحدودة في رصد الآفاق المستقبلية، بل يسقطون في استشراق جديد بالنيابة، ولكنه هذه المرة موقع بأسماء عربية مثل محمد وعلاء وأحمد بدل ستيفن ومايكل وروبرت، ويحدث هذا الآن في الواقع. ومنذ أن أنشأت بريطانيا القسم العربي لراديو “بي بي سي” في يناير 1938 مع بدء ملامح الحرب العالمية الثانية، للرد على الدعاية النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، بعدما تبين تعاطف جزء كبير من الرأي العام العربي مع طروحات روما وبرلين، من وقتها والعالم العربي يعيش، خاصة مثقفيه وسياسييه وإعلامييه ومحلليه، مع بعض الاستثناءات، على إيقاع ما تنتجه الآلة الفكرية – الإعلامية الغربية. وكان القسم العربي لـ”بي بي سي” هو البداية، ولاحقا ومنذ الخمسينيات توالت أقسام بالعربية لإذاعات أخرى رسمية من فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا، ولاحقا تطور الأمر إلى الأقسام العربية لكبريات وكالات الأنباء وأساسا فرانس برس ورويترز. وسجل ظهور القنوات الفضائية الغربية باللغة العربية، مثل “بي بي سي” و”الحرة” و”فرانس24″ قفزة نوعية لغزوها بيوت العالم العربي، وآخر محطة في هذه الظاهرة وليست بالأخيرة موضة النسخ الرقمية بالعربية مثل “سي أن أن” والإذاعة الألمانية وتجربة النسخ للمجلات الورقية العربية مثل «نيوزيك» التي لم يكتب لها النجاح منذ سنوات، والتجربة الحالية غير المفهومة لها “فنغتون بوست” بالعربي. وانضافت إلى كل هذا، ظاهرة فتح فروع عربية لكبريات معاهد التفكير الاستراتيجي الأمريكية والبريطانية.
وتسعف معطيات تاريخــــية لشرح هذه الظــــاهرة ومنها خضوع العالم العــربي للاستعمار الفرنسي والبريطاني، وانتقال عدد كبير من الاعلاميين والمفكرين العرب للإقامة في باريس ولندن ونيويورك، ولم يكن أمامهم سوى ما ينتج فكريا وإعلاميا في هذه المدن. وحاول الاتحاد السوفييتي ممارسة تأثير مماثل، ولم يكتب له النجاح لأنه كان يفتقد للتسويق الاعلامي، ولم يكن فيه هامش للديمقراطية يسمح بجعل البروباغاندا الإعلامــــية لينة ومرنة مثلما يفعل الغرب.
ثم يضاف إلى هذا غياب الثقة في النفـــس من طرف الاعلاميين والمحللين العرب، فلكي يحصل على مصداقية أمام القراء، وإن كانت آراؤه صائبة فهو مجبر على الإشارة إلى “نيويورك تايمز” أو “لوموند” أو “الغارديان”. وهناك عامل موضوعي، وهو أن الاعلام العربي في الماضي لم يتطور بما فيه الكفاية ولم تكن تكنولوجيا الاتصال تسمح بقفزة نوعية، عكس اليوم.
وبداية القرن الواحد والعشرين خاصة في العقد الثاني منه، بدأ العالم يشهد تغييرات كبيرة ومقبلا على عالم متعدد الأقطاب من عناوينه البارزة، بدء تراجع الغرب لأول مرة بعد ثلاثة قرون من السيطرة على العالم، بفضل استعادة حضارات الشرق دورها مثل الصين، وإصرار روسيا على لعب دور مهم في التطورات الدولية وعودة دور الدول الإقليمية مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا. ومن أبرز تجليات هذا المسار الجديد الآخذ في التبلور، وإن كان بشكل جنيني لأنه يتطلب حقبة زمنية طويلة هو التغيير الحاصل في المفاهيم وإنتاج المعلومات. فلم تعد باريس ولندن وواشنطن تنفرد بإنتاج الأخبار والتحاليل، بل تعلن وكالات أجنبية روسية وصينية وتركية ومحللون من مناطق من العالم مثل أمريكا اللاتينية حضورهم في الساحة الإعلامية الدولية، ولا نجد لهم أثرا في الاعلام العربي كمصدر من مصادر الأخبار. ورغم كل هذه التطورات الجارية، يستمر الاعلام العربي، خاصة المشرقي منه، سواء في الخليج أو امتداده في لندن ونيويورك وباريس يعتمد كثيرا على رويترز و”فرانس بريس” و”الغارديان” و”نيويورك تايمز”، ولم يدرك بعد وجود مصادر أخرى للخبر والتحليل في الصين وروسيا والبرازيل وإيران والهند وتركيا، سواء إعلامية أو معاهد التفكير الاستراتيجي. ومن ضمن الأمثلة، قناة “الجزيرة” ذات التأثير القوي في العالم العربي، تمنح الحيز الأكبر في قراءة الصحف للبريطانية والأمريكية وتعتمد أخبار الوكالات رغم توفرها على أكبر شبكة للمراسلين شأنها شأن «العربية». وتزخر معظم الصحف العربية بصفحات كلها عن مصدر إعلامي غربي مثل فرانس برس أو رويترز، ويتكرر هذا مع الصحف الرقمية.
لقد نجح العرب في إنشاء جرائد ومجلات عابرة للأوطان وتهم العالم العربي مثل جريدة «القدس العربي» وتجرية مجلة «العربي»، ونجحوا في إنشاء قنوات تلفزيونية فضائية تخاطب الجميع، ولكنهم فشلوا في إنشاء مصدر للأخبار مستقل عن المصادر الكبرى مثل، وكالة أنباء تغطي العالم العربي وأحداث العالم برؤية عربية موضوعية تأخذ بعين الاعتبار أجندة انشغالات القارئ العربي وتطلعاته.
وبينما يفشل العرب في إنشاء وكالة، نجد تجربة جديدة آخذة في التبلور وهي القسم العربي لوكالة الأناضول، الذي بدأ يزاحم فرانس برس ورويترز وتحول إلى مصدر رئيسي للأخبار في العالم العربي. ويكفي استقصاء مصادر الخبر في الصحافة العربية الآن ليتبين مدى وجود هذا القسم الجديد مصدرا للأخبار.
يمكن الاعتماد على آخر ما ينتج في تكنولوجيا بث الأخبار، ويمكن كتابة مقالات ثورية، ولكن إذا لم يأخذ بعين الاعتبار المصدر الأول بشأن إنتاج الأخبار والتحاليل والأفكار والأجندة الحقيقية لانشغالات المتلقي، في هذه الحالة، المواطن العربي، سنكون أمام وسائل إعلام عربية وذات روح غربية، وهو الغالب الآن.
عدد من مناطق العالم وعت هذا، مثل منطقة أمريكا اللاتينية التي تؤسس لتجربة إعلامية مهمة، لكن هذا لا يوجد في العالم العربي مع الأسف. العالم يعيش حرب إنتاج الأفكار والأخبار والتحاليل، فالإعلام يدخل ضمن ما هو جيوستراتيجي، ولم يكتب للعرب الانخراط فيه بنجاح حتى الآن.