تشهد الدول المجاورة والإقليمية للمغرب مثل، موريتانيا وإسبانيا والجزائر وتونس، دينامية قوية بشأن ملاحقة المسؤولين، الذين تورطوا في الفساد والاختلاس، حيث امتدت إلى رؤساء وقادة الجيش، بل حتى الملك في حالة إسبانيا. وهذا يجري في وقت يتعطل فيه قطار مكافحة الفساد في المغرب، بشكل يثير الريبة والشكوك، ولاسيما الفساد الأكبر.
وتعيش إسبانيا موجة من ملاحقة الفاسدين، وهذا ليس بالجديد على هذه الدولة التي يقوم فيها القضاء والأجهزة الأمنية بالدور المنوط بهما، في حماية ممتلكات الأمة من جهة، وحماية الديمقراطية من جهة أخرى، إذ لا يمكن للديمقراطية التعايش مع الفساد المهيكل. وخلال الثلاث سنوات الأخيرة، امتدت يد القضاء إلى عدد من الوزراء ورؤساء الحكومات الجهوية، ورؤساء بلديات، وامتدت إلى أعضاء العائلة الملكية، ومنهم الملك خوان كارلوس بتهمة الفساد، ما أجبره على الرحيل من البلاد إلى أبو ظبي هاربا من العدالة.
ومنذ نجاح ثورة الياسمين، يباشر القضاء التونسي، بين الحين والآخر، فتح ملفات الفساد، سواء التي تعود الى حقبة الديكتاتور زين العابدين بن علي، أو الفترة الحالية، ومن عناوينها البارزة الحكم بالسجن على الرئيس السابق بتهمة الفساد.
وفي الجزائر، ورغم ما يشاع عن «طابع الانتقام» في اعتقال مسؤولين كبار في حكومات وأجهزة الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، فالقضاء ألقى الضوء على الفساد المتغلغل في دواليب البلاد. فقد جرى اعتقال وزيرين أولين، عبد المالك سلال وأحمد أويحيى، وعدد من قادة الجيش وجبهة التحرير. ومن الصعب رؤية مظاهر الفساد تتكرر في هذا البلد نتيجة ضغط الشارع.
ويتابع المغاربة باهتمام تطورات المشهد السياسي في موريتانيا، بسبب ملف فساد الرئيس السابق محمد بن عبد العزيز، وكيف جرى التحقيق معه، ومنعه من مغادرة البلاد، علاوة على التحقيق مع عدد من وزراء حكوماته وأفراد عائلته. بينما يحدث كل هذا في الدول المجاورة للمغرب، لا يرغب هذا البلد في الالتحاق بقطار محاربة الفساد، رغم تحوله الى أخطر عنصر يهدد الأمن القومي العميق للمغرب ومستقبله. ويمكن رصد الفساد في المغرب في مظاهر متعددة تشريعية وعملية، أي السرقة والنهب الممنهج. في هذا الصدد، المغرب هو الدولة الوحيدة التي ترفض حتى الآن، إصدار قانون الإثراء غير المشروع، حيث هناك معارضة شديدة وسط البرلمان لهذا القانون. وهذه المعارضة ما هي إلا امتداد لمصالح اللوبيات الكبار، التي هي في الدولة. وهنا نتساءل: هل يمكن الحديث عن أخلاقية البرلمان المغربي، في ظل معارضته لمشروع معاقبة الإثراء غير المشروع؟
على المستوى العملي، تحدث الملك محمد السادس نفسه خلال يوليو الماضي عن وجود تلاعبات كبيرة، شملت أسعار المحروقات، ويصل الأمر الى قرابة مليار دولار في سنة ونصف السنة، يضاف إلى هذا الفساد، أو السرقة الكبرى التي شملت مشاريع مثل إصلاح التعليم، ولاسيما مشروع «البرنامج الاستعجالي» الذي أهدرت فيه مئات الملايين من الدولارات. وخلال الثلاث سنوات الأخيرة، انفجر ملف تلاعب البنوك بالعملات الصعبة.. تحدث كل «مشاريع الفساد» هذه، ولا تتحرك الأجهزة المعنية من الشرطة والقضاء للتحقيق.
ومن المهازل التي يعيشها المغرب، تكليف الشرطة بمراقبة تقديم المشروبات الكحولية في بعض المطاعم والفنادق، في مدن مثل الدار البيضاء، ووصف هذا العمل بأنه فتح مبين ضد الفساد، بل وتشبيه ذلك بالأيادي البيضاء، التي عرفتها إيطاليا، علما أن الأمر يتعلق بعشرات الآلاف من اليوروات، في حين لا تتحرك الشرطة ولا النيابة العامة لمتابعة «الفساد العظيم» الذي يبلغ مليارات اليورو، ويرهن مستقبل بلد وصلت المديونية فيه إلى قرابة 100% من الإنتاج القومي الخام.
لقد اعتادت نخبة سياسية وإعلامية معينة في المغرب، إيجاد تبريرات واهية بشأن عدم وجود مشروع حقيقي لمحاربة الفساد التي نخر الوطن. وهكذا، عندما يجري الحديث عن دينامية القضاء والشرطة في إسبانيا في متابعتها للمتورطين في الفساد، بمن فيهم الملك خوان كارلوس، يكون الرد هو «إسبانيا دولة ديمقراطية لا يمكن مقارنة نفسنا بها يجب أن ننتظر». ويبقى المضحك هو قيام بعض “المثقفين” المغاربة بالدفاع عن فساد الملك خوان كارلوس. وعندما يجري الحديث عن محاربة الجزائر للفساد واعتقال مسؤولين بما في ذلك وزيرين أولين يكون جواب هذه النخبة «ما يجري في الجزائر هو عملية انتقام سياسي». وعندما يجري الحديث عن موريتانيا، تلتزم هذه النخبة الصمت، ويقولون «هل موريتانيا ستعطينا الدروس السياسية؟»، اي بنوع من التعالي ويمكن الانتقال الى دول إقليمية للمغر مثل السنغال وغامبيا والنجير، حيث محاربة الفساد متقدمة للغاية. ومن مفارقات زمن الأخلاق، لجوء هذه العينة من «النخبة» إلى توظيف الوطنية للتهجم على كل من ندد بالفساد وطالب بضرورة محاربته.
منطقيا، تشكل إسبانيا والجزائر خطرا نسبيا على المغرب بسبب التنافس الإقليمي والمشاكل الموروثة عن حقب سابقة بما فيها الاستعمار. لكن الخطر الحقيقي على الأمن القومي المغربي في الوقت الراهن هو الفساد. لقد تسبب الفساد في ارتفاع مديونية المغرب بكل ما يعني من تقلص الخدمات الاجتماعية والفوارق الاجتماعية وارتفاع الفقر والحرمان وعودة هجرة قوارب الموت ومظاهر غير أخلاقية أخرى. لقد ضرب الفساد أهم ثلاث ركائز يقوم عليها مشروع أي أمة تهدف الى السمو الحضاري والتقدم، لقد ضرب الفساد التعليم والصحة والشغل. أي مستقبل لوطن بدون هذه الركائز الثلاث؟
لقد تحول الفساد إلى أكبر عائق في وجه رغبة الشعب المغربي من أجل التقدم، وأصبح حديث الرأي العام، لاسيما بعدما أبانت جائحة كورونا عن ضعف قطاعات الصحة والتعليم والشغل بل والفساد الذي ينخر هذه القطاعات. ومعه أصبح الذين يختلسون الوطن والذين أنيطت بهم مسؤولية محاربة الفساد، ولا يقومون بدورهم، يتصدرون الطابور الأول، لكن بمفهوم الطابور الخامس، إنهم في صدارة إضعاف الوطن.
في غضون ذلك، متى سيلتحق المغرب بقطار محاربة الفساد مثل الجزائر وموريتانيا وتونس وإسبانيا؟