تجاوزت إيطاليا الصين في عدد الوفيات بسبب كورونا فيروس رغم الفارق الكبير بين سكان كل دولة، كما تجاوزت أوروبا الصين لاسيما وأن هذه الأخيرة تخطت خطر الأزمة الصحية الناتجة عن هذا الوباء العالمي. وهذا يجر إلى تساؤل عريض: لماذا لم تنجح الدول الأوروبية في تكرار تجربة الصين في احتواء الفيروس؟
وينتشر كورونا فيروس بإيقاع مخيف في دول أوروبا ومنها إيطاليا التي تجاوز فيها عدد الوفيات 4000 ليلة الجمعة من الأسبوع الجاري بينما عدد المصابين يقترب من 50 ألفا. وهو رقم مهول، فساكنة هذا البلد الأوروبي لا تتجاوز 60 مليون نسمة، وهي أقل بعشرين مرة من ساكنة الصين التي تعدادها مليار و300 مليون نسمة، وسجلت الأخيرة حتى الآن وفاة 3245 ولم يتجاوز عدد المصابين 82 ألف. والأهم، أنه لم يعد تسجيل حالات محلية جديدة في الصين منذ أيام بل فقط وافدة. وتفيد كل المؤشرات بأن اسبانيا في الطريق إلى التحول إلى إيطاليا ثانية وربما أسوأ لاسيما في عدد المصابين، ولا يدعو الوضع في دول مثل ألمانيا وبريطانيا إلى التفاؤل.
ويتساءل سياسيون وخبراء وإعلاميون عن السبب أو السر في نجاح الصين في مجهوداتها الجبارة في احتواء هذا المرض الخطير رغم أنه اندلع في أراضيها، وبالضبط في مدينة ووهان عاصمة محافظة هوبي، وهي الدولة التي تشير التقارير العالمية الطبية أنها تفتقد لنظام صحي متطور غير قادر على توفير مستويات مقبولة في مجال الصحة. يحدث هذا بينما تتخبط الدول الغربية في البحث عن حل للوضع الصحي الصعب والخطير الذي تمر منه. ويزداد التساؤل إصرارا وسط الغرب بسبب صدارة الدول الغربية وخاصة اسبانيا وفرنسا أرقى أنظمة الصحة في العالم، فهي دائما ضمن العشر الأوائل بل أن اسبانيا هي الثالثة وفق تقرير بلومبيرغ لسنة 2020.
وكثيرة هي العوامل التي يمكن بها تفسير هذا الفارق، بعضها منطقي وعلمي والآخر غير علمي أو يبقى نسبيا مثل الحديث عن انضباط الشعب للأوامر في ظل حكم الدكتاتوريات مثل حالة الحزب الشيوعي في الصين عندما أصدر أوامر الحجر الصحي في البلاد.
وعموما، يمكن الوقوف على ثلاثة عوامل رئيسية بل حاسمة لمعرفة الفارق بين الصين والدول الغربية وحتى الولايات المتحدة في معالجة كورونا فيروس بل لمواجهة أي كارثة سواء طبيعية قاهرة أو حربا عالمية إذا حلت بالعالم وهي:
-قوة رصد خطورة الوباء
في المقام الأول، طورت الصين قوة الرصد المتعلقة بالأبعاد الحقيقية والخطيرة التي يمكن أن تتخذها الأمراض والكوارث على الأمن القومي للبلاد. وتشهد الصين أوبئة بين الحين والآخر. وعموما، جزء من مخيال الشعب الصيني يحتفظ بمواجهة الشعب للكوارث الطبيعية والصحية التي عانت منها البلاد عبر التاريخ. وما زالت ذاكرة البلاد تستحضر مقتل 30 مليون صيني في الوباء العالمي “الأنفلونزا الإسبانية” ما بين سنتي 1918-1920. والجيل الحالي عاش رعب وباء سارس سنة 2002 كما عاش رعب وباء أنفلونزا الطيور سنة 2003-2004. وهكذا، فبعد أيام من التعاطي المتريث وغير الجدي للسلطات الإقليمية في هوبي مع كورونا فيروس عند رصد الحالات الأولى، مباشرة بعد وعيها بخطورة الأمر انتفضت الإدارة المركزية في بكين واعتبرت الأمر خطيرا. وهرعت باتخاذ تدابير جذرية وراديكالية ومنها الحجر الصحي على منطقة هوبي بسكانها 60 مليون ولاسيما مدينة ووهان البالغ عدد ساكنتها 11 مليون مثل نيويورك. كما امتد الحجر الصحي إلى باقي مدن الصين وإن كان بدرجات متفاوتة. ومما ساهم في سرعة التحرك وتطبيق الأوامر هو مركزية القرار في يد الإدارة في بكين بدل الإدارات الإقليمية. فرغم مركزية الحزب الشيوعي، تتمتع الإدارات الإقليمية بهامش في التسيير، وكانت الإدارة الإقليمية لمنطقة هوبي قد تماطلت في معالجة الحالات الأولى. وعلاقة بالغرب وباقي العالم، رغم التحذير الصيني، لم يتخذ الغرب إجراءات وقائية سريعة. لم تكن لديه حاسة الرصد الاستباقي وتقدير المخاطر. والمفارقة، عندما اتخذت الصين إجراء الحجر الصحي وطنيا، انهالت عليها الصحافة الغربية بالنقد واتهمتها بالرغبة في قمع الأصوات المعارضة. موقف الصحافة الغربية أو الغرب برمته من إجراءات الصين نابع من التشكيك في الآخر ومن زاوية سياسية مرتبطة بعقدة التفوق. وبدورها، لم تكن منظمة الصحة العالمية مدركة لخطورة الأوضاع رغم الشروحات التي قدمتها بكين لوفد من المنظمة يوم 23 شباط/فبراير الماضي. لقد تأخرت منظمة الصحة العالمية حتى 11 اذار/مارس لكي تعلن أن الوباء صار عالميا بدل أن تعلن عن ذلك مباشرة بعد زيارة الصين في التاريخ المشار إليه.
-التحرك لحماية المشروع القومي
في المقام الثاني، وارتباطا بالنقطة السابقة، قوة الرصد لدى الحكومة المركزية في بكين ورد الفعل السريع ولكن المنطقي والعملي في مواجهة الكوارث، مرتبط برغبة الصين في المحافظة وحماية مشروعها القومي الرئيسي المتمثل في زعامة العالم خلال العقدين المقبلين. وعليه، فهي تطبق المفهوم العميق لأفكار أب الفكر جيوسياسي سان تزو الذي ينادي بسرعة التحرك واتخاذ القرار الاستراتيجي بدون تردد للانتصار في الحروب. وهذه الخاصية لا توجد في أوروبا، وهي المكونة من الدول التي تمتلك مشاريع قومية مختلفة بل ومتضاربة رغم انتماءها إلى كتلة الاتحاد الأوروبي.
-الاكتفاء الذاتي
والعامل الثالث والأخير ويعد حاسما بكل ما تحمله الكلمة من معاني عميقة. عندما أدركت الصين خطورة كورونا فيروس، أقدمت على أكبر عملية طبية ربما في تاريخ البشرية. فقد عملت على توجيه الفرق الطبية المتخصصة في الأوبئة والإسعاف والانعاش من جميع أنحاء الصين إلى محافظة هوبي وأساسا مدينة ووهان منبع الفيروس القاتل. وشيدت مستشفيات مؤقتة في زمن قياسي خاص بمرضى كورونا فيروس بلغ عددها 16 في ووهان وحدها للفصل بين مرضى الفيروس والمرضى العاديين، وهذا كان حاسما في تقليص عدد المصابين. في الوقت ذاته، لم تحتج الصين إلى مساعدة باقي العالم، فهي أكبر مصنع للآلات الطبية الخاصة بالتنفس الأساسية في غرف الإنعاش لمواجهة كورونا فيروس، وهي أكبر مصنع للكمامات الطبية وباقي المعدات الطبية والأدوية في العالم. وتداولت وسائل الإعلام العالمية بالإعجاب سرعة الصينيين في تشييد مستشفى عملاق خلال أيام لم تتعدى العشرة لمعالجة حالات كورونا فيروس في ووهان.
وفي الجانب الآخر، في أوروبا والغرب عموما، يتابع الرأي العام بقلق غياب معدات أساسية في المستشفيات مثل الكمامات الطبية وآلات التنفس واحتجاج المهنيين من أطباء وممرضين وشرطة بسبب نقص الكمامات، السلاح الرئيسي لمواجهة كورونا فيروس. ثم غياب التضامن بين الدول الأوروبية بل وحتى بين أقاليم البلد الواحد. وفي هذا الصدد، رغم بدء المعاناة مع الفيروس في إيطاليا، لم تقدم لها الدول الكبرى مثل فرنسا وألمانيا مساعدات عاجلة. وفي اسبانيا، دخلت حكومتا الحكم الذاتي في كتالونيا ومدريد في مواجهة مع الحكومة المركزية الوطنية حول طرق العمل وبعض المعدات الطبية. ومن ضمن التساؤلات التي ما زال يرددها سياسيون وإعلاميون وحتى مواطنون عاديون في الغرب: هل وصل العجز بنا أننا لا نستطيع صنع كمامات طبية بالقدر الكافي لمواجهة هذا الظرف الصعب؟ ولو كان الاتحاد الأوروبي قد تحرك كدولة واحدة لوجستيا لمساعدة منطقة لومبارديا شمال إيطاليا لكان الوضع أحسن بكثير.
وهذه العوامل الثلاثة كانت حاسمة في انتصار الصين على كورونا فيروس، بينما لم تتوفر في باقي دول العالم ومنها أوروبا وحتى الولايات المتحدة التي يراقبها العالم كيف سيكون ردها هل مثل الصين أم لا. وأمام النقص الحاد سواء في المعدات أو المستوى المهني لمحاصرة كورونا فيروس، ها هي الدول الأوروبية تدق باب الصين للحصول على المعدات والدعم الطبي. وقد توصلت أغلبها وخاصة إيطاليا وفرنسا واسبانيا بمعدات بل وبفرق طبية، وتنوي روما طلب نجدة بطين بإرسال فرق طبية.
وتستغل الصين المستجدات العالمية المرتبطة بكورونا فيروس لبناء خط حرير صحي يوازي ويتوافق مع خطب الحرير التجاري الذي ترغب من خلال هيكلة التجارة العالمية خلال العقود المقبلة. ولأول مرة، ينظر العالم إلى الصين طلبا للمساعدة ولا يوجه أنظاره إلى الولايات المتحدة، وهو تغيير جيوسياسي عميق جدا يشير إلى مرحلة جديدة في العلاقات الدولية.