عم نوع من الارتياح نتيجة عدم حدوث الموجة الحمراء التي كانت مرتقبة في الانتخابات النصف التشريعية في الولايات المتحدة التي جرت الثلاثاء من الأسبوع الجاري، أي عدم فوز الحزب الجمهوري بأغلبية كاسحة. في المقابل، تبرز هذه الاستحقاقات مدى الشرخ الذي يحدثه الاستقطاب السياسي العنيف في البلاد والمستمر منذ سنوات، مما يهدد وحدة المجتمع بالتفكك، بينما تحافظ الدول المنافسة لواشنطن على ريادة العالم مثل الصين وروسيا نسبيا على وحدة مجتمعاتها.
وهذا الارتياح يسود في صفوف أنصار التعايش والديمقراطية في الولايات المتحدة ومؤسساتها المشكلة للدولة العميقة العميقة بل في الغرب عموما وجزء من العالم بأن عدم حدوث الموجة الحمراء يقلل أوتوماتيكيا من حظوظ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من عودته إلى البيت الأبيض. ويعد ترامب المسؤول عن تفاقم الاستقطاب السياسي الخطير الذي تمر منه البلاد منذ سنوات وكأنها استعادت أجواء الحرب الأهلية التي حدثت بعد منتصف القرن التاسع عشر.
وكان الخبراء يحذرون من تراجع جودة الديمقراطية الأمريكية منذ مجيئ ترامب، فقد عمّد الى تفجير التناقضات والمخاوف التي كانت نائمة ومنها الصراع العرقي بين السود والبيض. ولم يقتصر التخوف فقط على الباحثين الأكاديميين بل انتقل الى صفوف الرأي العام الأمريكي العادي الذي بدأ يلمس خطورة الأوضاع. في هذا الصدد، وبمناسبة هذه الانتخابات النصف التشريعية، كشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة”إيديسون للأبحاث” (Edison Research) يوم الاقتراع بأن 70% من المواطنين الأمريكيين يعربون عن تخوفهم الكبير على مستقبل الديمقراطية في البلاد في ظل الاستقطاب وغياب سياسيين يحملون صفة “رجل دولة”. ويرى 60% من الرأي العام أن ترامب لا يعتبر رئيسا مثاليا بل يوجد رأي سيئ عنه، بينما يحبذ 70% من الأمريكيين عدم ترشح جو بايدن الى ولاية ثانية. نتائج استطلاع الرأي جرت عدد من المحللين في قنوات مثل سي إن إن وسي بي سي الى التساؤل عن رؤية الأمريكيين للبيت الأبيض في وقت يرفضون فيه أبرز المرشحين لقيادة البلاد، الرئيس الحالي والرئيس السابق.
ويوجد نوع من الارتياح في هذه الانتخابات التي جرت الثلاثاء بسبب فشل بعض مرشحي ترامب لأنه قد يعني تراجع خطاب الكراهية السياسية. إلا أن هذا لا ينفي أن التخوف على مسار الديمقراطية في الولايات المتحدة سجل منعطفات كبيرة خلال السنتين الأخيرتين، أولهما انبعاث الصراع العرقي بعد مقتل المواطن الأفرو-أمريكي جورج فلويد على يد الشرطة خلال مايو 2020 وكيف اقتربت البلاد من شرخ اجتماعي خطير. في الوقت ذاته، وجود طبقة سياسية بزعامة دونالد ترامب رفضت نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 2020 وهاجمت الكونغرس في ذلك اليوم الأسود 6 يناير 2021 وتعمل على تبخيس من قيمة المؤسسات الأمريكية بمبرر وجود مؤامرة تستهدف الجذور الحقيقية للبلاد؛ حيث يروج أصحابها لوجود مخطط للقضاء على أمريكا المسيحية البيضاء لصالح اختلاط جديد من الشعوب.
غير أن التوتر الحقيقي يعود إلى سنوات، وبالضبط إلى انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة سنة 2008 وعدم رضى تيار عنصري في البلاد بوصول سياسي من أصول إفريقية الى البيت الأبيض. وكان ترامب قد بنى شعبيته وسط الأمريكيين بالتشكيك في مكان ولادة باراك أوباما، وأيقظ العنصريين وأصحاب التفوق العرقي من جحورهم. وتكتب جريدة لوموند الفرنسية في افتتاحية لها قبل الانتخابات بأن ترامب الذي هدد الديمقراطية في الولايات المتحدة مازال يسعى للوصول إلى السلطة مجددا مما يهدد ديمقراطية البلاد ومجتمعها.
ويترجم تراجع جودة الديمقراطية في دولة مثل الولايات المتحدة بالتفكك الذي يخيم على المجتمع خلال السنوات الأخيرة سواء الصراع بين الإثنيات من جهة وبين الطبقات من جهة أخرى وتراجع الطبقة المتوسطة. ويرى خبراء الدولة العميقة هذا التفكيك وارتفاع نسبة الإثنيات الجديدة مثل الآسيوية وخاصة اللاتينية بالخطر المحدق الذي يضعف مستقبل الولايات المتحدة كرائدة وقادة للعالم مقارنة مع الصين. وكان المفكر الشهير صامويل هانتنغتون قد نبّه وحذّر في كتابه الأخير قبل وفاته بعنوان “من نحن” من الانعكاس السلبي لارتفاع دور الإثنيات على دور الولايات المتحدة وكذلك تراجع الطبقة المتوسطة.
وبينما تعيش الولايات المتحدة هذا التفكك، تعمل الدول الكبرى المنافسة لها وخاصة الصين بالدرجة الأولى ثم روسيا بدرجة أقل على حماية مجتمعاتها من التفكك لضمان الاستقرار رغم أنها دول غير ديمقراطية، إذ تقوم بتعويض الديمقراطية بمشاريع وطنية نحو “سمو وتفوق الوطن”، وهي العقيدة التي تمنح للصين تماسكا قويا حتى الآن. وتبرز الجريدة الصينية “شاينا دايلي” خاصة بمناسبة الانتخابات الأخيرة هذا النوع من التفكير المستقبلي.
ومن ضمن الأمثلة الشهيرة التي وقعت خلال العقود الأخيرة، عندما تفكك وحدة المجتمعات السوفياتية انهار الاتحاد السوفياتي رغم أنه يمتلك أهم ترسانة نووية في العالم. وتدرك الصين خطورة التفكك المجتمعي ولاسيما ارتفاع دور الأقليات، ولهذا تحارب بقبضة من حديد مطالب الأقلية المسلمة الإيغور عبر الاعتقالات الجماعية في المعسكرات لتغيير نمط تفكيرهم ومعتقداتهم حتى لا يكونوا نقطة ضعف نحو ريادة الصين للعالم ونموذجا لأقليات أخرى للانتفاضة في هذا البلد الآسيوي ضد السلطة.
منذ نهاية الحرب القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين، حققت الولايات المتحدة ريادتها للعالم لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية بفضل وجود مجتمع موحد وطبقة متوسطة قوية رغم معاناة الأمريكيين من أصل إفريقي من التهميش. ومهما كان لون الفائز برئاسة البيت الأبيض والكونغرس سواء جمهوريا أو ديمقراطيا، لم يشهد المجتمع وقتها استقطابا سياسيا بل ساد الاحترام والاعتراف بدور مختلف المؤسسات الدبلوماسية والأمنية والعسكرية والاستخباراتية والسياسية. كان من الصعب سماع تصريح لرئيس سابق يعارض في الملفات الأمنية والخارجية طريقة تسيير رئيس خلفه في المنصب لأن المجتمع الأمريكي كان وقتها موحدا. في المقابل يحصل العكس الآن مع الرئيس السابق دونالد ترامب الذي يعد أكبر مشكك في دور واشنطن في الساحة العالمية بما فيها في الحرب الأوكرانية ويقف أحيانا الى جانب روسيا. وكان “معهد الديمقراطية والنمو وسيادة القانون” التابع لجامعة ستانفورد الأمريكية قد عالج الأسبوع الماضي خطر تراجع الديمقراطية في العالم ومنها الأمريكية وتقدم دول مثل الصين في قيادة العالم.
في غضون ذلك، تحمل نتائج هذه الانتخابات، أي تقلص تأثير ترامب رغم فوز الحزب الجمهوري، بصيصا من الأمل بتراجع الشعبوية مؤقتا، لكنه لن يحمي البلاد من الاستقطاب والاحتقان السياسي الذي يهدد وحدة البلاد وريادتها للعالم، ويكفي رؤية كيف فقدت واشنطن زعامة العالم مع ترامب بسبب التوتر الذي خلقه في العلاقات الدولية حتى مع شركاء الولايات المتحدة التاريخيين، أي أوروبا. وتكتب مجلة نيو ريبابليك الأمريكية في عددها الأخير أنه لا يمكن انتظار تخلي الحزب الجمهوري عن ترامب وبعض مواقفه. غير أن هذه التطورات تضعف الولايات المتحدة أمام منافسيها وخاصة الصين لأنها تعتمد على الديمقراطية كرافعة للريادة بينما تراهن الصين، الدولة غير الديمقراطية، على “تفوق وسمو الوطن” عقيدة لخلق التماسك بين مختلف مكوناتها الإثنية في سعيها نحو ريادة العالم.