يُستفاد من الجهات المسؤولة عن الشأن الثقافي فى المغرب أنّ أهم محاور برنامج الدورة الخامسة والعشرين للمعرض الدّولي لنشر الكتاب وتسويقه الذي انطلق فى مدينة الدار البيضاء فى السّابع من شهر فبراير الجاري 2019 وسيظل مفتوحاً فى وجه الزوّار لغاية 17 من نفس الشهر،أنه سيعرف مشاركة أكثر من 700 عارضاً، يمثلون أزيد من 40 بلداً ،ومن المنتظر أن تحتفي هذه الدورة بالأدب الاسباني كضيف شرف لهذا المعرض، إذ ترى الجهات الوصيّة المشرفة على تنظيم هذا المعرض أن هذا الإختيار يعكس عمق العلاقات الثقافية التي ربطت منذ قرون بين البلدين، وما عرفته من تلاقح وتثاقف، وتأثر وتأثير، حيث سيتمّ فى هذا السياق استضافة مجموعة من الأسماء الإبداعية فى كلٍّ من المغرب واسبانيا خلال فعاليات هذا المعرض.
إلاّ أن بعض المثقفين المغاربة المرموقين فى العلاقات الإسبانية المغربية منهم الإعلاميّ الصّديق الحسين مجدوبي بحيدة يرى أنّ اختيار اسبانيا كضيف شرف فى هذه الدورة لم يكن مُوفقاً لعدّة أسباب بدهية فى طليعتها تراجع الإقبال على لغة سيرفانتيس فى المغرب فى السّنوات الأخيرة ،كما يرى : ” أنّ اسبانيا سبق لها أن كانت ضيفَ شرف منذ أكثر من عِقد من الزّمن على معرض الكتاب في الدار البيضاء، ويفترض أن تكون عودتها تتويجاً لنجاح كبير لكن الواقع عكس هذا نهائياً. فمعطيات اللغة الإسبانية والتعاون الثقافي في تراجع ملفت للنظر، ولا يمكن الاعتماد على التصريحات البروتوكولية التي تصل إلى مستوى النفاق والتملق سواء من طرف مسؤولين مغاربة أو اسبان للتغطية على التعاون الثقافي، وعليه فإنّ معطيات هذا التعاون خاصّة فى المجاليْن الثقافي والجامعي في الوقت الرّاهن بين اسبانيا والمغرب يجعل اسبانيا لا تستحقّ أن تكون ضيفَ شرف في المعرض الحالي للكتاب ” .
إطلالة على تاريخ الكتابة والكتاب
ومع ذلك ،على هامش هذا المعرض الكبير، ومعارض “الكِتاب” الكبرى الأخرى التي تُنظّم بين الفينة والأخرى فى مختلف العواصم العربية والعالميّة على إمتداد الحَوْل ،فإنني أدعو القارئ الكريم إلى جولة فى عالم الكِتَابة،والكَتبَة، والكُتّاب، والكِتاب، هذا الجليس،الأنيس، المعلّم، الوفيّ، الصّامت، الناطق، الصّادق الذي رافق الإنسانَ منذ أقدم العهود ،وما زال يلازمه، ويصاحبه،ويرافقه، ويؤنسه إلى يومنا هذا ، حتّى في زخم عصرالتطوّر التقني (التكنولوجي) الهائل، والمُذهل ، وفي دنيا الإعلاميات ،والإتصالات، وما تطلع به علينا كلّ يوم من إختراعات، وإستنباطات متطوّرة في عالم الحواسيب ،والعقول الإلكترونية ،والشّابكة (الإنترنيت) وشبكاته العنكبوتية المتشعّبة، وإستعمالاته المتعدّدة والمحيّرة من ذاكرة الحاسوب ، وكتبه الإلكترونية ، والفيسبوك، والرّائي أو المشواف (التلفاز) وسواه من الجديد المتواترالمُبتكَر الذي ما إنفكّ يفاجئنا به هذا العصر العجيب ، مع ذلك ما زال الكتاب موجوداً، ومحبوباً، ومطلوباً ،وحاضراً بقوّة بيننا، بل إنه ما فتئ يحتلّ مكانَ الصّدارة بين ظهرانينا وَرَقيّاً وإلكترونيّاً على حدٍّ سواء .
الكتاب…أيّ سرّ أو سحر يكمن بين دفّتي هذا الخِلّ الوفيّ ، والصّديق الأمين، والجليس الأنيس، والسّاهر السّامر..؟ ما أصله..؟ ما قصّته وتاريخه وتطوّره..؟ ما هي معاناته..؟ ما هي المخاطر التي تحدّق به والتهديدات التي تلازمه وتلاحقه..؟ وما نوعيّة الجرائم والفظائع التي إرتكبت وما زالت تُرتكب فى حقّه..؟ ما هي مآسيه ومحنه ، وإغترابه وإستلابه ؟ ماهي أخباره وحكاياته وطرائفه ومكانته عند الناس والخلفاء والأدباء والشّعراء ..؟.
كان أمير الشعراء أحمد شوقي يقول: (أنا من بدّل بالكتب الصّحابَا / لم أجد لي وافيّا إلاّ الكتابَا) ،ويقول أحمد أبو الطيّب المتنبّي فى بيته المشهور: (أعزُّ مكانٍ في الدّنى سرجُ سابحٍ / وخيرُ جليسٍ في الزّمان كتاب).
القرطاسُ والقلمُ
بدأت الكتابة في العهود الغابرة من الأزمان في شكل صُورٍ تدلّ على معاني ومدلولات ملموسة في الحياة اليومية للإنسان القديم ، وقد تمّ العثورعلي الكثير من النقوش والصّور والرموز التي تدلّ على معاني ومفاهيم معيّنة في منطقة الهلال الخصيب، خاصّة في الحضارة السوميرية قبل حوالي ستّة آلاف سنة، وقد عرفت الكتابة عندهم بالمسمارية أو الإسفينية، كما تمّ العثور في مناطق أخرى من العالم على بعض الرسوم والصّورمثل تلك التي عثر عليها في كهوف “ألتاميرا “في إسبانيا ، و”لاسكو” في فرنسا، أو رسوم” ناسكا “في البيرو عند شعوب الأنكا والموشيك وسواها من المناطق الأخرى من العالم .وفي مرحلة متقدمة من التاريخ البشري جاء الفنيقيون وابتكروا الكتابة مستعينين بالسوميرية والمصرية القديمة، ثم جاء الإغريق وطوّروا أبجديتهم نقلاً عن الفنيقيين ، ثم أصبحت عندهم أبجدية خاصة بهم والتي أصبحت فيما بعد الأبجدية الخاصّة بالغرب ، ثم جاء الرّومان وأخذوا الأبجدية الإغريقية ، وقد سادت اللغة الرومانية واللاّتينية في مختلف الأصقاع الأروبية بعد سيطرة الإمبراطورية الرومانية على بلاد الغرب . وجاءت الكتابة العربية متأخرة، “إذ يعود تاريخ ظهورها إلى حوالى 600 ق م، من التاريخ، والأبجدية العربية مشتقة من الكتابة السّامية ،جاءت من رحم اللغة الآرامية السّريانية بنت الكنعانية وربيبتها “، وبدأت الكتابة العربية تنتشر فى الأصقاع بعد أن قرّر الخلفاء الراشدون تدوين القرآن الكريم على عهد الخليفة عثمان بن عفّان، ثم انتشرت الكتابة العربية انتشاراً واسعاً مع إنتشار الدين الإسلامي الحنيف .والابجدية العربية مشتقة من الكتابة السامية التي اشتقت بدورها من الابجدية الفنيقية والتي وصلت العرب عن طريق الأنباط الذين تأثّروا بحضارة الآراميين وطريقة الكتابة عندهم. وفي القرن الثامن للميلاد شرع العرب في إستخدام الورق الذي إبتكره الصينيّون بدلاً من الرقّ أو الجلود ،بعد ذلك أسّس العرب مصانعَ للورق، وعنهم أخذته البلدان الأوروبية في القرن الثاني عشر.وقد أنشئ أوّل مصنع للورق في إنجلترّا في القرن الخامس عشر . وفي عام 1436إخترع “غوتينبرغ”الطباعة فكان ذلك الاختراع قفزة عظيمة ، وفتحاً مبيناً في تاريخ الكتابة ثمّ الكتاب الذي تمّ نقله من طور القرطاس والقلم ، والمخطوط الغميس،الى المكتوب أو المطبوع الصقيل.
يؤكد الباحث فى التاريخ القديم “إلياس غندور أيوب عطا الله” فى كتابه ( الكون والأنسان بين التطوّر والعلم والتاريخ) : ” أنّ الكتابة الأبجدية الكنعانية (الكنعانيون وهم من زمن 4000 ق م،) إبتكرها تاووتس الكنعاني ابن ميسور، او ميزور، ابن اميتس ابن كنعان ابن حام، بحوالي 500 سنة قبل ان يولد الفينيقيون في التاريخ، علماً أن الفينيقيين هم أحفاد الكنعانيين، وأنّ قدموس الكنعاني شقيق فينيقس وكيليكس وأوروبا، جميعهم أولاد أجينور أو أشنار ملك صور اللبنانية في القرن 13 ق م هو الذي حمل الأبجدية الكنعانية، وليس الفينيقية، إلى بلاد الأغريق حوالى 1250 ق م. وحديثاً عثر علماء اليونان/ الإغريق على عملات معدنية من العصر الكنعاني عليها صورة قدموس يعلّم الناسَ هناك الكتابة الكنعانية ” . ويرى الأستاذ غندور:” أنّ اللغة اللّاتينية التي إشتقت منها معظم اللغات الأوروبية هي بنت اللغة الكنعانية، منها اشتقت، وتحمل ملامحها في جميع صورها ومعانيها. وبعد الكنعانيين طوّر الفينيقيّون الكتابة ببراعتهم مستعينين بالإرث الكنعاني ثم بالسّومرية، والمصرية القديمة “.
ويؤكد الباحث فى اللغة الأمازيغية الأستاذ محمد حمزة من جهة أخرى : “أنّ الدراسات الحديثة أثبتت أن التيفيناغ هو سابق للأبجدية الفينيقية بقرون. وهو من الكتابات القديمة التي يُقال أنها كانت موجودة في وقت الكتابة الأولى التي عرفت في منطقة سومر ببلاد الرافدين”، ويوجد مِن المختصّين مَنْ يؤكد أنّها عاصرت الكتابات المسمارية القديمة، كما تشير عدّة نظريات إلى أنّ كتابة التيفيناغ هي إنتاج محلي للأمازيغ في شمال إفريقيا. وترجع بعض الدراسات التيفيناغ إلى الكتابة الليبية القديمة التي تعود إلى آلاف السنين والمدوّنة في الرّسومات الحجرية، حيث جرى تحوّل من الرّسومات التي تجسّد كلَّ شيء إلى ما يُسمى التجريد إلى أشكال هندسية، وهذا ما يؤكد أن الإنسان في شمال إفريقيا إنتقل من الرّسم إلى الكتابة وعلى سبيل المثال إنتقل من رسم المرأة إلى الترميز لها من خلال شكل المثلث الموجود في الكتابات والرسوم، وهو نفسه الحرف (ت) أو (T ) ” .
بَابُ الرّمْلَة وجرائم الحرائق
تعرّضت الكتبُ والمخطوطاتُ منذ أقدم العصور إلى المتابعة، والمصادرة، والرقابة، والحرق،والدمار، والإتلاف… فقد كان الكتاب منذ القدم هو الوسيلة التي تنقل بواسطته العلوم والمعارف وأسرار الحروب وخطط الدفاع والهجوم، وفيها كانت تُسجّل الإختراعات وأسرار الدّول والصنائع، والمُخترعات، بل كان الكتاب هو السّلاح الأفتك، والوسيلة المثلى والأنجع للتنوير والتعليم وتثقيف العقول وتهذيب النفوس وتغذية القلوب وملئها بنور الإيمان والهداية.
كان أوّل ما نزل من القرآن الكريم “إقرأ” وفي سورة البقرة يرد إسم الكتاب (كتاب الله) فيقول جلّ جلاله:( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين) . وجاء فى إنجيل يوحنّا: (فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ) . وكانت كتب العرب في الأندلس تثير الرّعبَ والهلعَ في قلوب الإسبان المتزمّتين منهم، في حين كان يحتفي ويُعْنىَ بها آخرون، فهذا الكاردينال سيسنيروس أمر عام 1501 بحرق مكتبة ” مدينة الزّهراء” التي كان فيها ما ينيف على ستمئة الف مخطوط في مكان يسمّى “باب الرملة” بغرناطة وهي ساحة كبرى معروفة ما زالت موجودة بها بنفس هذا الإسم العربي القديم حتى اليوم ، يؤمّها السيّاح من مختلف أنحاء العالم ، ويشرئبّون بأعناقهم لمشاهدة اللوحة الرّخامية التي كتب عليها هذا الإسم الذي أصبح لصيقاً ومقروناً باسم هذا الكاردينال ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن فعلته الشنعاء، وجريمته النكراء التي دمّرت واختفت على إثرها العديد من المخطوطات وأمّهات الكتب النفيسة التى أبدعها علماء أجلاء في مختلف حقول العلم، وفروع المعارف بالأندلس من مختلف الأديان والملل ، ويُقال إنّ الجنود الذين كلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يُخفون بعضَ هذه الكتب أثناء إضرامهم النارَ فيها في ثنايا أرديتهم لفرط جمالها، وروعتها، وبهائها إذ كان مُعظمها مكتوباً بماء الذهب الإبريز والفضّة اللجيْن.
قال المؤرخ والباحث الإسباني إيتشيبيريا في كتابه “جولات في غرناطة ونواحيها” عن العدد الحقيقي لما حُرق من الكتب¨ فى هذه المحرقة الفظيعة : “إن عدد الكتب العربية الأندلسية التي تمّ إحراقها في الساحة تجاوز مليونا وخمسة وعشرين ألف كتاب ،عملية الإحراق أشرف عليها الكاردينال سيسنيروس لفرض نسيان شامل، ومسح التاريخ الأندلسي من الذاكرة واقتلاع الشعب الأندلسي من جذوره “.
التاريخُ يُعيد نفسَه
وقد وصف لنا العديد من شعراء الاندلس بحسرة ما بعدها حسرة فى هذا السياق كيف أنّ الإسبان بعد حروب الإسترداد كانوا يحرقون الكتب والمخطوطات والمصاحف ويلطّخونها ، وفي ذلك أشعار كثيرة مؤلمة منها هذه الأبيات التي يخبرنا فيها شاعر أندلسي متحسّراً أنّ” سلطان الإسبان وكبيرهم” قد فعل بهم كيت، وكيت من الفظائع والأهوال ، إلى أن يقول :
وأحرق ما كانت لنا من مصاحف / وخلّطها بالزّبلِ أو النجاسةِ
وكلّ كتابٍ كان فى أمرِ ديننا / ففي النّار ألقوْه بهزءةٍ وحقرةِ
و قد أعاد التاريخُ نفسه في بلدان أمريكا اللاتينية حيث قام الاسبان عند إكتشافهم لها بحرق العديد من المخطوطات والكتب القديمة التي تعود لشعوب المايا، والأزتيك في المكسيك، ولشعوب الإنكا، والموشيك في البيرو، وقد تمّ ذلك أمام أعين أربابها السكّان الأصلييّن في هاذين البلدين وفي سواهما من بلدان أمريكا اللاتينية.
وحرقُ الكتب أيّ إتلافها وتدميرها بالنار يجري فى بعض الأحيان لأسبابٍ أخلاقية، أو سياسية ،أو دينية، أو إنتقامية . وقد يتمّ التخلّص من الكتب سريّاً كما حدث لملايين الكتب التي تمّ إحراقها في الكتلة الشيوعية الشرقية قبل سقوط حائط برلين .ويذكر لنا التاريخ العديد من الأمثلة لهذه الجرائم التي لا تغتفر. فبالإضافة الى حرق كتب المسلمين في الأندلس،وكتب المايا والإنكا في المكسيك والبيرو نذكر حرق الكتب على عهد أسرة ” تشين”الصينية ، وحرق النازيّين لكتب خصومهم في أوربا.وتعتبر عمليات حرق الكتب جرائم في حقّ العلم، والفكر، والإنسانية، والتاريخ .
مخطوطات عربية بالإسكوريال
ويظنّ الكثيرون أنّ مكتبة دير الإسكوريال الشهيرة القريبة من العاصمة الإسبانية مدريد المليئة بالمخطوطات العربية الثمينة هي من مخلفات العرب في إسبانيا ، والحقيقة أنّ محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت أحرقت كلّ الكتب لعربية أينما وجدت، ولم يبق بعد خروج المسلمين من شبه الجزيرة الإيبيرية كتب عربية تستحقّ الذكر.وفي أيّام السعديين بالمغرب كان المنصور الذهبي مولعاً باقتناء الكتب وجمَع منها خزانة عظيمة ، وسار خلفه إبنه زيدان على سنته في الاهتمام بالكتب، فنمّى الخزانة التي كانت عند والده.ولمّا قام عليه أحد أقاربه واضطرّ للفرار كان أوّل ما فكر فيه خزانة كتبه فوضعها في صناديق ووجّهها الى مدينة آسفي لتشحن في سفينة كانت هناك لأحد الفرنسيين لينقلها الى أحد مراسي سوس. فلمّا وصلت السفينة إنتظر رئيسها مدّة أن يدفع له أجرة عمله ، ولما طال عليه الأمر هرب بمركبه وشحنته الثمينة ، فتعرّض له في عرض البحر قرصان إسباني وطارده حتّى إستولى على المركب الفرنسي وأخذ الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا بها إلاّ الكتب ، فكروا ، من حسن الحظ أن يقدّموها هدية لملكهم . ولما وصلت هذه الكتب الى الملك فيليبي الثاني ، الذي كان منهمكاً في بناء الدير الفخم للقدّيس “لورينثو ” بالمحلّ المُسمّى بالإسكوريال أوقفها على هذا الدّير ، وهي التي لا تزال الى اليوم موجودة به، ويقصدها العلماءُ من كلّ الأقطار للإستفادة من ذخائرها ونفائسها الثمينة .
الكتابُ وطرائفُه
كان الكتاب يحظى بعناية خاصّة عند العرب ، وكان الكتاب وما يزال يحظى عندهم باهتمام بالغ ، وقد جمع الخلفاء في المشرق والمغرب الآلاف من أمّهات الكتب والمخطوطات، فمدينة قرطبة كانت تحفل بالمكتبات وأروقة العلم و بيوت الحكمة، كانت تزيّن خزانة “الحكم المستنصر” بها (861-976 م) أزيد من أربعمائة ألف مخطوط، هذا الرجل الذي قال عنه “بول لين” إنّه دودة كتب، والذي عنه يقول ابن خلدون : “إنه جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله” . كما إعتنى هارون الرشيد في المشرق بجلب العديد من الكتب و المخطوطات من الديّار التي فتحها. وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ببغداد ذروته على عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية خاصّة ووهبه كثيرا من ماله ووقته . وأهمّ ما ميّز بيت الحكمة الخزانة العظمى التي كانت بها ، وقد تمّ تدمير العديد من نفائسها على يد المغول عام 1258 م.
كان العلماء يحبّون الكتبَ حبّاً جمّاً، وقد شُغفوا بها شغفاً كبيراً ، الجاحظ مات تحت أكوام كتبه،وكانوا يتحمّلون المشاق وعناء السفر لطبع كتبهم أو إقتنائها أو بيعها ، وفى الأندلس كان يقال: إذا أفلس عالم فى غرناطة باع كتبه فى قرطبة ، وإذا أفلس موسيقيّ فى قرطبة باع أدواته فى غرناطة. وكانت إعارة الكتب شيئاً ممقوتاً عندهم ، وكان شاعرهم يقول في ذلك :
ألا يَـا مُـسْـتَـعـيـرَ الــكُـتْـبِ دعْــنِــي / فَــإنَّ إعَـــارتــي لـلـــكُــتْـــبِ عَـــارُ
و مَــحْــبُـوبـي مــنَ الـدنْــيَــا كِـتـابٌ / وهَـلْ أبْـصَــرتَ مـحـبـُـوبــاً يُــعَـــارُ..؟
وكانوا يقولون إنّ الكتاب الذي يعار قد لا يردّ إلى صاحبه، وهم محقّون في ذلك ، إذ يُحكىَ أنّ الكاتب الفرنسي “إميل زولا” زاره ذات مرّة أحدُ أصدقائه في بيته ، وعندما بدأ الصديق يطّلع ويتفقّد مكتبة” زولا “الكبيرة ، فيأخذ كتاباً يتمعّنه ثم يردّه إلى مكانه في رفوف المكتبة ، وفجأة وقع نظره على كتابٍ كان يبحث عنه منذ مدّة ، فقال لصديقه زولا : هل لك أن تعيرني هذا الكتاب..؟ فقال زولا له على الفور: لا ، لا أستطيع أن أعيرك إيّاه، فالكتاب الذي يعُار لا يُردّ إلى صاحبه أبداً ، والدّليل على ذلك أنّ مُعظم الكتب التي ترى في هذه المكتبة مُعارة. !.
وقال أحد الكتّاب الكولومبيين:إنّ الذي يُعير كتاباً إقطع له يداً واحدةً، أمّا الذي يردّه إلى صاحبه فاقطع له الإثنتين !. وكان الكاتب الإيرلاندي السّاخر جورج برنارد شوّ يتجوّل ذات مرّة بسوق الكتب القديمة بلندن ، وفجأةً وقع نظره على كتابٍ له كان قد صدر مؤخراً ، وكان قد أهداه لأحد زملائه الأدباء، فباعه هذا الأخير دون أن يفتح أوراقه التي كانت لا تزال لصيقةً ببعضها كما كانت تصدر الكتب فى ذلك الوقت، فاشترىَ شوّ الكتابَ، وكتب تحت الإهداء القديم : برنارد شو يُجدّد تحيّاته، ثمّ بحث عن صديقه وسلّمه الكتابَ من جديد..!.
****
(*)كاتب، وباحث من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانيّة – الأمريكيّة للآداب والعلوم – بوغوتا – كولومبيا.