تستمر قضية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي في شد انتباه الرأي العام العالمي بسبب بشاعتها وبسبب العقوبات التي قد تتعرض لها العربية السعودية، ثم الأسئلة المعلقة حول مستقبل ولي العهد محمد بن سلمان في حالة تأكيد مسؤوليته كالجهة التي أعطت أوامر الاغتيال وهل استمراره يخدم مصالح الغرب وأساسا واشنطن.
في هذا الصدد، وعلاقة بالموقف الأمريكي اعتبارا لقوة الحسم دوليا لهذا البلد، يمكن التركيز على نقطتين أساسيتين، الأولى وهي: هل ستتأثر العلاقات السعودية-الأمريكية على مستوى الصفقات ومنها الأسلحة والتحالف التاريخي؟ وتتجلى النقطة الثانية أو الشق الثاني في موقف الإدارة الأمريكية بكل مكوناتها من صلاحية استمرار محمد بن سلمان وليا للعهد وتوليه عرش السعودية مستقبلا.
وتذهب الكثير من التحاليل مذهبا خاطئا في ربط مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة السعودية ومدى تحديد مسؤولية محمد بن سلمان في جريمة مقتل خاشقجي بالعامل الاقتصادي، وكأن الاقتصاد الأمريكي يرتهن بنظيره السعودي. في هذا الصدد، لا يشكل الاقتصاد السعودي شيئا أمام الأمريكي، فالولايات المتحدة تتوفر على أكبر اقتصاد عالمي بما يناهز 19 ألف مليار دولار، بينما الاقتصاد السعودي لا يتجاوز 700 مليار دولار، أي أن الاقتصاد الأمريكي أكبر بـ 27 مرة من نظيره السعودي. ولم تعد الولايات المتحدة تحتاج إلى النفط السعودي أو الخليجي عموما كما لا يمكنها الاعتماد على الاستثمارات السعودية، فهذه الأخيرة لا تحتل المراكز العشر الأولى كمستثمر في السوق الأمريكية بل دول أخرى وهي بريطانيا واليابان والمانيا وفرنسا واللكسمبورغ وكندا وسويسرا.
وبالتالي هناك العنصر الأخلاقي المطروح وليس العنصر الاقتصادي خاصة في العلاقة مع واشنطن رغم التصريحات المثيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وهذا العنصر الأخلاقي يتجلى في بشاعة الجريمة وخرقها لقانون فيينا المنظم للعلاقات الدولية. ومن ضمن التحاليل الأمريكية التي وقفت على هذا المعطى هناك المحلل الأمريكي ويليام ويشسلر، في مجلة “ناشيونال أنترسنت” هذا الأسبوع الذي يعتبر تحول خاشقجي إلى قضية عالمية ويشبه الحدث في العلاقات الدولية بما جرى في بداية القرن التاسع عشر عندما قتل نابليون بونابرت دوق منطقة إنغهيم الواقعة في بلجيكا لويس أنطوان دي بوربون سنة 1804. وقتها تحول بونابرت من زعيم وبطل إلى مجرم في أعين الأوروبي. وبن سلمان الذي لا يعتبر بطلا من الماضي أصبح الآن مجرما في أعين الرأي العام العالمي بسبب هذه الجريمة، وبالتالي هناك أصوات تطالب بمحاسبته على اغتيال جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول يوم 2 تشرين الأول/أكتوبر الجاري.
وفي الشق الثاني من الإشكال المطروح، يؤكد أحد خبراء العلاقات العربية-الأمريكية وهو الأمير هشام، ابن عم الملك محمد السادس، بمعارضة الإشتبلشمنت الأمريكي (الإدارات الحساسة مثل الاستخبارات والجيش والخارجية) لاستمرار بن سلمان وليا للعهد عكس رغبة الرئيس دونالد ترامب. ويمكن رصد أسباب عديدة لهذا التوجه ويمكن تلخيصها في عنوان عريض “تهور ولي العهد سياسيا وعسكريا”. ونستعرض الأسباب:
أبان ولي العهد عن خفة في اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية بشكل لم تشهده السعودية من قبل وأبرزها الحرب ضد اليمن التي كان يهدف من ورائها تقوية الجبهة ضد إيران. ولكن حدث العكس، إذ أبانت هذه المغامرة عن محدودية الجيش السعودي ضد قوات غير حكومية مثل الحوثيين، وهو ما جعل الرئيس ترامب يقول بعدم صمود السعودية أكثر من أسبوعين في أي حرب. وتورط الجيش الأمريكي في دعم السعودية بضغط من الرئيس ترامب. وكان البنتاغون يوفر المعلومات الاستخباراتية مثل تموقع القوات الحوثية ووجود الصواريخ الباليستية وتقديم النصح للطيران السعودي في ضرب الأهداف، ولاحقا وجد نفسه يرسل خبراء ويتورط أكثر حتى لا يتقدم الحوثيون في الحدود الجنوبية السعودية. ولا يمكن للبنتاغون سحب دعمه للسعودية في مواجهة اليمن، ولا يمكنه التورط الكامل في الحرب مثل إرسال قوات المارينز لأن ذلك سيكون مكلفا للغاية. لكن الهزيمة النسبية لعاصفة الحزم في مواجهة اليمن هي هزيمة في العمق للخطط والسلاح الأمريكي، وهو ما يثير غضب الجنرالات الذين رفض الكثير منهم التورط ضد اليمن في الحرب.
وفي الوقت ذاته، هناك تخوف كبير يسود الإستبلشمنت الأمريكي من احتمال دخول محمد بن سلمان في مواجهة عسكرية مفاجئة مع إيران وبالتالي يكرر مفاجآت صدام حسين في الحرب الإيرانية وغزو الكويت. وقتها ستضطر الولايات المتحدة إلى التدخل في الحرب بكل قوة لمنع هزيمة السعوديين، علما أن الإدارة الأمريكية الحالية تتميز بالانسحاب من النزاعات الخارجية والتركيز على القضايا الداخلية ثم إيلاء اهتمام خاص بالصين التي تشكل خطرا على النفوذ العالمي لواشنطن ليس مستقبلا بل ابتداء من الآن.
وفي شرح آخر حصلت عليه جريدة “القدس العربي” من مصادر أمريكية هو وجود تخوف من مغامرات بن سلمان الداخلية قد تؤدي إلى نزاع كبير في السعودية أشبه بالحرب الأهلية، وستضطر الولايات المتحدة والغرب عموما التدخل في السعودية لحماية آبار النفط وضمان حصول العالم عليه لتفادي أزمة كبيرة رغم أن أهمية النفط السعودي تتراجع أمام قوة إنتاج الولايات المتحدة وروسيا ونجاح عدد من الدول في التنقيب عن النفط في أراضيها.
ويعتبر الإستبلشمنت الأمريكي بن سلمان سياسيا غير منضبط، ويتخذ قرارات مزاجية في الكثير من الأحيان بسبب قلة الخبرة وبسبب عقد نفسية يعاني منها، وهو قادر في أي وقت على تغيير التحالفات. في هذا الصدد وفي نوع من الغزل تجاه موسكو، أشار ولي العهد خلال مؤتمر الاستثمار الذي انعقد هذا الأسبوع في الرياض وقاطعه الغرب إلى معرفة السعودية حلفاءها من ألد أعدائها. وقد يغير فجأة دفة التحالف الاستراتيجي من الولايات المتحدة والغرب إلى روسيا والصين. هذه فرضية صعبة الحصول نظرا لارتباط السعودية بالغرب اقتصاديا وعسكريا، ولكن في ظل وجود سياسي غير منضبط كل شيء ممكن. وحدثت مؤشرات عندما أرادت الرياض الحصول على منظومة الصواريخ الدفاعية إس 400 من موسكو. إذا حصل هذا السيناريو، ستجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة رفقة باقي الدول الغربية بمحاصرة السعودية.
ويعود غضب الإستبلشمنت الأمريكي من محمد بن سلمان إلى تضييعه بهذه الجريمة فرصة تاريخية تجعل من السعودية زعيمة سنية إقليمية في مواجهة إيران الشيعية وحتى تركيا السنية بعدم تراجع حضور دول مثل مصر والعراق خلال العقدين الأخيرين، لكن الآن على واشنطن البحث عن زعيم آخر وإذا استمر بن سلمان ستبحث عن دولة إقليمية أخرى قد تكون تركيا. هذا الإستبلشمنت يؤكد أن: بن سلمان لم يعد مخاطبا للولايات المتحدة ومن الصعب التعامل مع شخص يوصف بالمجرم، ولهذا مسألة بقاء ولي العهد في المنصب لن تدوم كثيرا رغم مناوراته الحالية لأنه يشكل خطرا على مخططات الغرب في الشرق الأوسط بسبب تهوره.