يعد الماء الصالح للشرب والري من العناصر التي قد تفجر حروبا في المستقبل. فقد تجمعت عوامل متعددة تجعل قيمة الماء تزداد أهمية مع مرور الوقت وهي التصحر وقلة التساقطات وارتفاع الحرارة في العالم خلال العقد الأخير مما يتسبب في تبخر المياه ثم ارتفاع نسبة السكان. وأضحى الماء عنصرا رئيسيا في مفهوم الأمن القومي لكل دولة ولاسيما في أفريقيا وآسيا. ولعل مثال مصر هو الأبرز في الوقت الراهن بعدما أصبح سد النهضة الإثيوبي الكبير مصدر تهديد لمستوى عيش عشرات الملايين من المصريين. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ماذا ستفعل مصر لحماية أمنها القومي، وهل هي قادرة على التدخل العسكري الذي يجري التلويح به؟
مشروع سد النهضة ليس وليد العقد الماضي، فقد جرى التصميم الأول نهاية الخمسينيات، عندما تكلفت شركة أمريكية بمسح النيل الأزرق وهي التي حددت الموقع الحالي للسد. وجاء القرار الأمريكي وقتها نتيجة اهتمام بشرق القارة الأفريقية لخلق نشاط اقتصادي لمنع تغلغل النفوذ الشيوعي ثم في إطار التضييق على مصر بزعامة جمال عبد الناصر التي بدأت وقتها مشروع السد العالي.
وانتقل الإثيوبيون إلى بناء السد ابتداء من سنة 2010 والآن ستبدأ عملية ملء البحيرة الرئيسية للسد. والمثير هو عجز الدبلوماسية المصرية مسايرة إيقاع النهج الهجومي للدبلوماسية الإثيوبية خلال هذه الأيام التي تنص على ضرورة قبول القاهرة بالأمر الواقع والتأقلم مع انخفاض منسوب مياه النيل الذي ستحصل عليه ابتداء من الشهور المقبلة عندما ستبتلع البحيرة الرئيسية نسبة هامة من المياه. ومنذ سنوات، تلوح مصر بالتدخل العسكري ضد إثيوبيا لتدمير السد، ويعد التدخل العسكري آخر ورقة لحل النزاع إذا فشلت المفاوضات الدبلوماسية. وعليه، هل مصر قادرة على حسم ملف سد النهضة عسكريا؟ الجواب سيكون بالنفي، وذلك للأسباب التالية:
في المقام الأول، تاريخ التسلح العسكري المصري لاسيما خلال العشرين سنة الأخيرة هو للدفاع عن البلاد من أي غزو محتمل على شاكلة ما حصل للعراق سنة 2003 وبالتالي لا تتوفر مصر على أسلحة تسمح لها بشن هجمات خارج حدودها بشكل فعال.
في المقام الثاني، خلال العشرين سنة الأخيرة تم الزج بالجيش في مواجهة المعارضة المصرية أكثر بكثير من تعبئته في الدفاع عن المصالح العليا والحساسة، لاسيما بعدما نتج عن التوتر الداخلي ظهور الإرهاب واستعمال السلاح كمكمل للعمل السياسي في بعض الأحيان. وهذا من سمات الدول غير الديمقراطية التي تحول جيوشها إلى شرطة عسكرية سياسية بدل ترك المؤسسة العسكرية على الحياد وتخصيص وقتها للدفاع عن الأمن القومي الذي يهدد وجود الوطن وليس وجود النظام.
في المقام الثالث، اعتمدت مصر على التسلح الخارجي بدون تطوير صناعة أسلحة وخاصة الصواريخ تمنحها قوة استراتيجية في ضرب الأهداف. فهي لم تتبن الاستراتيجية الإيرانية بالتركيز على تطوير الصواريخ، خوفا من الضغوطات الإسرائيلية والأمريكية ما سيؤدي إلى وقف الاستثمارات والمساعدات الغربية.
وعليه، لا يمكن لمصر نهائيا شن هجوم عسكري على إثيوبيا بسبب البعد الجغرافي. ومن باب المستحيل شن غزو عسكري برا بسبب البعد الجغرافي ووجود السودان بين البلدين. ولا تتوفر مصر على سفن إنزال الجيوش في البر الإثيوبي. وبالتالي، فغزو على شاكلة عملية علي باشا سنة 1820 ضد العمق السوداني ومنه نحو إثيوبيا هو من ضرب الخيال في وقتنا الراهن. والحديث عن إرسال مصر لكوماندوهات لتدمير السد هو من باب الخيال العلمي في هذه الحالة.
وعلاقة بسلاح الجو، لا يمكن للمقاتلات المصرية سواء الأمريكية ف 16 أو الفرنسية رافال التي اقتنتها مؤخرا من التحليق حتى الأجواء الإثيوبية وضرب سد النهضة ثم العودة بسلام. فعلاوة على البعد الجغرافي، يجب على المقاتلات قطع مسافة خمسة آلاف كلم وهو ما لا تستطيعه بسبب ضعف خزاناتها من الوقود وضعف التسليح، ولن تسمح السودان للمقاتلات المصرية بعبور أجوائها نهائيا. بل يحصل العكس، يبدو أن السودان يميل إلى إثيوبيا كنوع من الانتقام التاريخي من تصرفات مصر اتجاهه. وكل دولة سمحت لسلاح الطيران بالمرور من أجوائها لضرب إثيوبيا يعني إعلان هذه الدولة الحرب ضد إثيوبيا، وهذا سيعرضها لضربات انتقامية. ولم يخض سلاح الجو المصري حروبا خلال العقود الأخيرة، باستثناء توظيف الطيران في محاربة الإرهابيين في سيناء. وتجدر الإشارة في هذا الصدد أن مقاتلات مصر الغربية لا تتوفر على نفس مميزات نظيراتها في الجيوش الغربية وخاصة الأمريكية، فهي محدودة من حيث خزان الوقود والتصويب والقوة النارية.
ولا تمتلك مصر حاملة للطائرات لتقترب من الشواطئ الإثيوبية تكون قاعدة انطلاق لضرب سد النهضة. ورغم تطور المقاتلات الأمريكية، فهي تحتاج عند الحروب الانطلاق من حاملات الطائرات التي تكون على مقربة من ساحة الحرب أو الأهداف التي تضربها، كما حدث في حرب العراق. والدول التي تمتلك قاذفات استراتيجية لضرب الأهداف ولا تحتاج إلى القرب الجغرافي هي الولايات المتحدة بطائرات سبرينغ ب 2 وبوينغ ب 52 ثم روسيا من خلال تبوليف 160.
في الوقت ذاته، تدمير سد النهضة يحتاج إلى قوة نارية من القنابل ضخمة للغاية تعادل القنبلة النووية، ولا تتوفر مصر على هذه القوة لأنها تفتقر للقنابل الذكية التي تخترق التحصينات الجدرانية من الأسمنت لاسيما في حالة السدود. وتاريخيا، توجد عملية واحدة لتدمير السدود ووقعت خلال الحرب العالمية الثانية وبالضبط يومي 16 و17 أيار/مايو من سنة 1943 وتعرف باسم “عملية تشاستيس” التي استهدفت سدودا ألمانية كانت تنتج الكهرباء لمصانع صناعة السلاح. وكان ضربها ضروريا لوقف إنتاج الكهرباء وتجميد عملية تصنيع الأسلحة مؤقتا وبالتالي حرمان الجيش النازي من السلاح. ونجحت العملية التي تطلبت تعبئة قصوى من الحلفاء نظرا لضعف مضادات الطيران لدى ألمانيا ثم القرب الجغرافي بين بريطانيا وألمانيا، إذ يتعلق الأمر بأقل من 500 كلم علاوة على أن السدود كانت صغيرة وذات جدران محدودة المقاومة. وسد النهضة كبير وضخم بكل المقاييس. وإذا نجحت طائرات الرافال المصرية في الوصول إلى السد وتجنبت الكثير من العراقيل، لن تلحق به سوى أضرار محدودة تتطلب أياما من الإصلاح فقط. فالأمر يتعلق بسد علوه يقارب 170 مترا وطوله يتجاوز 1800 متر.
وعلاوة على كل هذا، لا يمكن الاستهانة بالجيش الإثيوبي، فهذا البلد يتوفر على أسطول جوي لا بأس به مكون من سوخوي 25 وميغ 25 وسوخوي 27 الروسية ذات المهام المتعددة والقادرة على اعتراض المقاتلات المصرية. وعندما بدأت إثيوبيا تشييد السد، اقتنت مضادات طيران متطورة وتحت إشراف إسرائيلي مثل سبايدر إم إر، وتتوفر مسبقا على أنظمة روسية مثل بانشير وفولغا.
في غضون ذلك، يأتي التحدي الإثيوبي في وقت تعيش فيه مصر أسوأ وضع سياسي وأمني. ويفتقد الداخل المصري للتعبئة بسبب التوتر السياسي الناتج عن أسلوب حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي وحربه ضد الإخوان المسلمين وكل ما هو ديمقراطي. عكس التعبئة التي تعيشها إثيوبيا، حيث هناك إجماع بين المعارضة والحكومة ومختلف إثنيات البلاد على الدفاع ما يعتبرونه “المعجزة الإثيوبية” لاسيما وأن هذا السد يعمل على تقوية الوحدة الوطنية. وسترفع إثيوبيا من محصولها الزراعي وإنتاج الكهرباء، وسيكون السد أكبر محطة للكهرباء في أفريقيا، وهو فخر لن يتنازل عنه الشعب الإثيوبي.
من جهة أخرى، تعاني مصر من اضطراب إرهابي في سيناء منذ سنوات، ويشكل استنزافا لقدرات الجيش المصري. بينما الجهة الغربية، أي الحدود مع ليبيا مرشحة لتطورات غير مرتقبة نتيجة التدخل التركي وتراجع خليفة حفتر حليف القاهرة وتوافد مسلحين متشددين على ليبيا، الأمر الذي سيجعل من الحدود الغربية لمصر سيناء جديدة سيستنزف الكثير من قدرات الجيش المصري. ولا يمكن استبعاد هذا السيناريو لإضعاف مصر.
ووفق الكثير من التقديرات العسكرية، الحل الوحيد الذي كان أمام مصر هو استراتيجية الصواريخ ذات المدى البعيد وذات الحمولة التفجيرية الهائلة والتصويب الدقيق، أي إمطار السد بشكل مستمر بصواريخ لتجميد عمله وتخريبه الجزئي لإجبار إثيوبيا على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وهي الاستراتيجية التي نهجتها إيران بتطوير صواريخ، لكن مصر امتنعت عن تطوير الصواريخ لطمأنة إسرائيل حتى عرضت أمنها القومي إلى أكبر هزة في تاريخها وكأن الأمر يتعلق بسنوات عجاف، ليس سبع هذه المرة كما جاء في الذكر الحكيم وإنما سنوات عجاف أبدية.