لفقراء المغرب حجهم أيضا: المواسم لهم فيها عبادة وتجارة

الحج إلى مكة لمن استطاع إليه سبيلا. ومن لم يستطع فالبدائل متوفرة. على الأقل هذا ما يعتقد به البعض ممن يقصد أضرحة ’الأولياء والصالحين‘ في أمكان مختلفة من أرض المسلمين. موسم سيدي بوخيار واحد من مواسم “حج الفقراء” في المغرب. “الموسم الذي يتم في موقع سيدي بوخيار هو تمثيل للموسم الذي ينظم في مكة”، يقول أحد الزوار.

محاكاة
يُعرف المغرب بأرض الأولياء والصالحين. ففي كل منطقة ولدى كل قبيلة أو تجمع سكني تجد قبرا أو ضريحا أو زاوية دينية يقصدها مريدوها لممارسة طقوس دينية معينة يتمازج فيها ما هو إسلامي بما هو شعبي ومحلي. ليس كل الأولياء والصالحين على درجة واحدة من التقديس والاحترام. كما أن ’بركات‘ هؤلاء تختلف مستوياتها بحسب السؤال والطلب. فالفتيات اللائي يردن الزواج على سبيل المثال يقصدن الولي الموكل بهذه المهمة ومن يريد أن يخلف ذرية يقصد آخر، وهكذا تتوزع ’الاختصاصات‘ والكرامات والأدوار ما بين الأولياء والصلحاء. وهناك أيضا من تسمو كراماته إلى درجة التقديس لدى أتباعه فلا يتورعون عن ذكر مناقبه وكراماته التي تفوق كرامات الأنبياء.

سيدي بوخيار الواقع فوق قمة جبل حمام في قبيلة بني ورياغل بالريف المغربي (شمال) هو واحد من أشهر الأولياء في المنطقة. سيدي بوخيار لا يشفي سقما ولا يخصب عاقرا أو يعلم غناءا كما يفعل سيدي شعيب أولفتاح الواقع قبره في قبيلة تمسامان (شمال) بالقرب من البحر الأبيض المتوسط. ولكنه في المقابل يعفي أتباعه من مشقة السفر إلى مكة لأداء الشعيرة الخامسة من شعائر الإسلام ألا وهي شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام.

يقول أحد المهتمين بموسم سيدي بوخيار والذي التقته إذاعة هولندا العالمية في موسم السنة الماضية (2011)، إن ما يجري في سيدي بوخيار في يوم عرفة هو محاكاة لشعائر الحج الحقيقية و “تمثيل” لها مثل الطواف والأدعية والتلبية والنحر.

تجارة

وقفت الإذاعة فعلا على بعض ’الشعائر‘ مثل الطواف والتهليل والانتقال من مكان التجمع إلى الزاوية الرئيسية البعيدة ببضعة أمتار عن الضريح. قراءة القرآن تتم في الزاوية التابعة للطريقة العلوية، وهي طريقة حديثة نسبيا في الريف ولا علاقة لها بالأسرة العلوية الحاكمة ولا بعلويي المشرق، وعادة ما يكون شيخ الزاوية هو الساهر والمشرف على سير مراسم الحج وتنظيم الحجيج.

سألنا بعض رواد الزاوية عن “الشيخ” فذكر أن المرض منعه من الحضور، ولكن خليفته يقوم مقامه طيلة أيام الموسم. “كل زوار سيدي بوخيار من رواد الزاوية العلوية”، يؤكد أحد الشباب الذي لاحظ أن الرواد أخذوا يتناقصون في السنوات الأخيرة بشكل ظاهر.

ما يسترعي الانتباه كذلك أن زوار موسم سيدي بوخيار ليسوا كلهم من أتباع الولي الصالح أو من ’الحجاج‘. بل فيهم تجار أيضا ومتسوقون. تجد في السوق كل أنواع البضاعة التي يحتاجها المتسوق وخاصة ضروريات عيد الأضحى. يقام السوق في اليوم المصادف ليوم عرفة وهو أيضا يوم الشروع في طقوس الموسم.

ظاهرة عامة

لا يعرف أصل سيدي بوخيار ولا من يكون. هناك من يرجع أصله إلى الجزائر (تلمسان) وإلى الشرق عموما وهذا احتمال وارد، خاصة وأن المخيلة الشعبية دائما ما تربط أصول ’الأولياء والمتصوفة‘ المنتشرين في المغرب بالمشرق الذي يعد أرض الرسالة. قد يكون هذا الولي من المتصوفة الأوائل الذين جابوا الأرض من المشرق إلى المغرب منذ عهود التصوف الأولى.

في دراسته القيمة “آيت ورياغل” تطرق الباحث الأمريكي المعروف دافيد هارت للولي الصالح سيدي بوخيار حيث زاره مرارا في فترة الخمسينات من القرن الماضي ووثق مواسم الحج إليه في صور أصبحت الآن من الكنوز النادرة، واعتبره “أكبر ولي في منطقة أيت ورياغل كلها” . وإلى الآن يقوم سواح ومهتمون أجانب بزيارة المكان إما لإشباع فضولهم في معرفة الشعوب أو للدراسة.

بعد النزول من أعلى قمة جبل حمام حيث توجد بقايا قبر لقديسة أخرى تسمى لالة منانة، صادفت الإذاعة باحثة هولندية تقيم في الريف منذ سنوات. “أنا حاجة الآن. أديت طقوس الحج ست مرات منها ثلاثة على التوالي”، تقول بعربية دارجة. ومن بركات لالة منانة التي تتضارب الروايات عن أصلها أنها تركب الماء على حصيرة ولاتغرق، كما اشتهرت بين الناس بصلاتها البسيطة التي تتحدد في ترديد هاتين الجملتين: “منانة تعرف الله والله يعرف منانة”!

ظاهرة سيدي بوخيار ليست الوحيدة في صنفها، إذ توجد في المغرب مواسم مشابهة مثل موسم ضريح سيدي شاشكال القريب من مدينة آسفي في جنوب المغرب، وموسم زاوية سيدي بورحال البودالي في قلعة السراغنة (جنوب). كما تنتشر الظاهرة في بلدان أخرى مثل الجزائر وتونس وليبيا وفي كل البقاء الإسلامية.

أسطورة

ما يوحد هذه الظاهرة رغم اختلاف الأمكنة، هو محاكاتها لطقوس الحج. وتفيد الأسطورة الشعبية بأن فتوى صدرت من الولي الصالح سيدي بوخيار، وبعض الروايات تؤكد أن الفتوى صدرت من عالم في مكة، تجيز إقامة شعائر الحج في مكان عام يتوسط القبائل، شريطة نثر تراب مقدس مستقدم من أرض الحرمين، وذلك تخفيفا للحجاج من معاناة السفر إلى الحجاز وتيسير أدائهم لفريضة الحج. وتضيف الأسطورة أن من حج ثلاث مرات متتابعة يكون قد استوفى فريضة الحج التي تكتمل بها أركان الإسلام الخمسة.

غير أن رجال دين معروفين في المغرب ينتقدون هذه الممارسات التي يرونها “بدعة” لا أساس لها في الدين الإسلامي. كما تلقى هذه الطقوس معارضة من التيارات الدينية المتشددة التي تعتبرها من بقايا الجاهلية الأولى. وقد عاينت إذاعة هولندا العالمية نبش قبر “لالة منانة” في أعلى قمة جبل حمام، وعند السؤال عما جرى جاء الجواب متضاربا. البعض يشير إلى أن النبش من عمل “الباحثين عن الكنوز” لاعتقادهم بأن القدماء كانوا يدفنون كنوزهم الخاصة أو كنوز القبيلة في الأضرحة وخاصة في أضرحة القديسين. والبعض الآخر يعتقد أنه من عمل المتشددين.

Sign In

Reset Your Password