في وقت يتابع فيه العالم الحرب في كل من قطاع غزة وأوكرانيا، يتطور ملف آخر شائك قد يتحول إلى حرب، ويتعلق الأمر بالنزاع الأمريكي-الفنزويلي الذي يبدو ظاهريا ملف مكافحة المخدرات، في حين يبقى في العمق ملفا يتعلق باستعادة واشنطن لسيطرتها على أمريكا اللاتينية وكذلك الحد من النفوذ الروسي والصيني.
خلال حملته الانتخابية وبعد وصوله إلى البيت الأبيض، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمه على محاربة المخدرات القادمة من أمريكا اللاتينية وأساسا من الكاريبي وفنزويلا والمكسيك. وتعتبر المخدرات خطرا على الأمن القومي لأنها تخلف أكثر من 80 ألف قتيل في السنة، وفق إحصائيات السنة الماضية وأكثر من 110 ألف قتيل سنة 2023. وتعتقد الإدارة الأمريكية الحالية أن مشكل المخدرات هو مؤامرة دولية لتدمير المجتمع الأمريكي تقف خلفها دول وأساسا الصين. وكان الرئيس قد اتخذ قرارا بإشراك الجيش في محاربة المخدرات، وهو القرار الذي كشفت عنه جريدة «نيويورك تايمز» خلال الصيف الماضي بعدما كان سرا.
وتطورت هذه الاستراتيجية العسكرية إلى ما هو أبعد بتمركز سفن حربية منها ثلاث مدمرات في الكاريبي قريبة من المياه الإقليمية لفنزويلا ثم غواصات، ويبرر البنتاغون هذا بملاحقة القوارب السريعة التي تنقل المخدرات إلى الولايات المتحدة. وعمليا، ضرب الجيش الأمريكي أربع قوارب آخرها الجمعة من الأسبوع الماضي وقضى على راكبيها واعتبرهم من المهربين. ويرتفع الضغط الأمريكي على فنزويلا، بعدما أعلنت واشنطن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو زعيم عصابة مخدرات وليس زعيم دولة، وخصصت مكافأة خمسين مليون دولار للقبض عليه.
لا يقتصر تناول الخبراء للأحداث على ظاهرها فحسب، إذ لا يمكن اختزال موقف الولايات المتحدة في مجرد رغبتها في محاربة تجارة المخدرات العابرة لفنزويلا، أو السعي إلى إعادة إنتاج سيناريو الرئيس البنمي مانويل نورييغا، الذي اعتقلته واشنطن سنة 1989 بعد اتهامه بالإتجار بالمخدرات عقب اجتياحها لبنما، ذلك البلد الصغير الذي كان حتى بدايات القرن الماضي جزءًا من فنزويلا.
إن مقاربة واشنطن لفنزويلا ينبغي أن تفهم ضمن سياق التحولات الجيوسياسية العميقة التي يشهدها النظام الدولي مع تبلور تعددية الأقطاب، حيث يجري توزيع مناطق النفوذ بين الشرق والغرب. ففي هذه الخريطة الجديدة، تصبح الدول الواقعة في المجال الغربي، حتى وإن لم تكن غربية بالمعنى الحضاري أو السياسي، مندرجة في دائرة الغرب، بينما تلحق الدول الواقعة في الشرق بالمجال الشرقي. وفي هذا الإطار يسعى الغرب إلى استعادة السيطرة على الدول المطلة على ضفتي الأطلسي والقارة الأمريكية، ومنع أي حضور روسي أو صيني فيها.
في هذا الصدد، كانت جميع الإدارات الأمريكية ترغب في الحفاظ على أمريكا اللاتينية مثل حديقتها الخلفية، وذلك بإيقاع مختلف من رئيس إلى آخر، حيث يكون هذا الطموح قويا عندما يكون الرئيس جمهوريا، ومعتدلا مع الرؤساء الديمقراطيين. غير أنه مع دونالد ترامب، هذا الطموح مرتفع جدا ويصل إلى استعادة أطروحة مونرو التي تعود إلى عشرينيات القرن التاسع عشر وهي أمريكا للأمريكيين. وكانت هذه الأطروحة التي تبناها وقتها البيت الأبيض ترمي إلى منع سقوط أمريكا اللاتينية في يد الاستعمار الفرنسي والبريطاني بعدما تحررت من الاستعمار البرتغالي والإسباني أساسا. ويبدو أن هذه المرة، عوضت كل من فرنسا وبريطانيا دولتان مختلفتان لا تهددان فقط مصالح الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية بل هيمنة الغرب، وهما الصين وروسيا، وإن كانت الصين هي التي تقلق واشنطن أكثر.
وكتبت جريدة «نيويورك تايمز» بداية الأسبوع الجاري كيف تهدف إدارة ترامب من وراء ملف المخدرات إلى الإطاحة بالنظام اليساري القائم في فنزويلا، وتنقل تخوف خبراء بأن اغتيال الرئيس مادورو قد يجعل من فنزويلا هايتي جديدة، حيث غياب الاستقرار التام. وهذا يعني التحول إلى مصدر اللاستقرار في منطقة الكاريبي. كما كتب المحلل السياسي فيرناندو زفيتانيتش في الموقع المتخصص في التحاليل السياسية «ذي كونفرسيشن» نهاية الأسبوع الماضي مقالا طويلا بعنوان «تدخل ضد المخدرات أو استراتيجية جيوسياسية؟ الصراع الأمريكي الفنزويلي في الكاريبي»، يبرز الأبعاد الجيوسياسية لهذا الصراع الذي ظاهريا يتغطى بملف المخدرات. ومن جهتها، كتبت جريدة «الباييس» الجمعة من الأسبوع الجاري أن هدف واشنطن هو تحييد الرئيس مادورو ودائرته بدون خوض حرب. ويبدو أن الاستراتيجية الأمريكية ضد فنزويلا هي كالتالي:
في المقام الأول، القضاء على نظام يساري تعتبره واشنطن مصدر الكثير من المشاكل الإقليمية، لاسيما بعدما منح لكل من الصين وروسيا امتيازات كبيرة سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري. ويكفي أن المقاتلات الاستراتيجية الروسية من نوع تو 160 توقفت في مطارات فنزويلا في عدد من المناسبات. وتحولت موانئ هذا البلد إلى محطة للسفن العسكرية الصينية والروسية بل حتى الإيرانية أحيانا. ويكفي كذلك أن الجيش الفنزويلي قد غير خلال العقدين الأخيرين من تسلحه، حيث كان يعتمد السلاح الأمريكي لتصبح ترسانته روسية بالدرجة الأولى وصينية بالدرجة الثانية. وعلى ضوء هذا، لا يمكن للولايات المتحدة في ظل عودة حرب باردة أن تسمح بدولة كبيرة مثل فنزويلا تدور في فلك روسيا والصين. مختلف الدراسات العسكرية الغربية بما فيها الحلف الأطلسي تنص وتشدد على ضرورة بقاء غرب العالم غربي بدون تأثير صيني.
في المقام الثاني، تتوفر فنزويلا على احتياطي كبير من النفط على المستوى العالمي. وقد استثمرت الصين كثيرا في النفط الفنزويلي. وفي ظل الحرب القائمة بين الولايات المتحدة والصين لريادة وزعامة العالم خلال العقود المقبلة، تريد واشنطن حرمان بكين من مصدر هام للطاقة ويتعلق الأمر بالنفط الفنزويلي، وحرمانها من التمركز في هذا البلد حتى لا تقوي نفوذها في مجموع أمريكا اللاتينية. ويكتب فيرناندو زفيتانيتش في المقال المشار إليه أعلاه، أن أمريكا اللاتينية ما زالت الحديقة الخلفية للولايات المتحدة ولكن الصين تعزز مكانتها على حساب المصالح الأمريكية.
في غضون ذلك، ستنجح الولايات المتحدة بدون شك في جعل النظام القائم في فنزويلا يتراجع عن سياسته ولو نسبيا ومنها التقليل من الاعتماد على الصين، لكن ما يأمل هو تغيير النظام للحد النهائي من النفوذ الصيني. إنها لعبة جيوسياسية مغلفة بمحاربة المخدرات.
كيف تراهن واشنطن على الضغط العسكري في ملف المخدرات لإبعاد فنزويلا عن الصين
صورة لزي عسكري أمريكي