أعادت جائحة كورونا إلى الأذهان قضية هجرة الأدمغة المغربية، وكانت المناسبة وقوف الباحث المغربي الأصل منصف السلاوي إلى جانب ترامب، وهو يقدم وعودا بإيجاد لقاح للفيروس تحت إشرافه.
تناقلت الخبر وكالات الأنباء المغربية والعربية والدولية. وكان أن تم الالتفات إلى الكفاءات المغربية المهاجرة، والمواقع العالمية التي تحتلها في مناصب حساسة، واختصاصات نادرة، والأدوار التي تضطلع بها على مستوى البحث العلمي العالمي. فصارت الجرائد الوطنية، وهي تتقدم إلينا «عن بعد»، وكذلك بعض القنوات العربية، والمجلات الأجنبية، ومواقع التواصل الاجتماعي، تمطرنا بواقع الأدمغة المغربية، معرِّفة بأسمائها، وباختصاصاتها، وأعدادها الهائلة، منوهة بمجهوداتها، ومفتخرة بعطاءاتها وتميزها، وهلم جرا.
ألا يمكن اعتبار هذا من المحاسن التي كشفت عنها الجائحة، وهي تقدم لنا صورة نابضة بالحياة عن مساوئ واقعنا؟ فما الذي دفع هؤلاء إلى الهجرة؟ ومن المسؤول عن تفكير أولئك في الاغتراب؟ وعن تغييبهم من الذاكرة والحضور المغربيين؟ بل حتى عن وجودهم؟ وهل يحق لنا أن نفتخر بهؤلاء الذين يشرفون المغرب الذي أهدر طاقاتهم، وتركهم عرضة لاختيار بدائل عن وطنهم؟ أرى أن الافتخار بهؤلاء والاهتمام بهم إعلاميا، بقدر ما فيه من اعتراف بظلم ذوي القربى، فيه اعتراف أيضا بأن الهوى الوطني، رغم ما يمكن أن يعتوره من تنكر لهؤلاء، يظل مشدودا إلى من ربطته بالمغرب آصرة الانتماء. كما أنني أرى أن الافتخار الحقيقي يحق لتلك النخب المهاجرة، لأنها ظلت تحمل الوطن بين ثناياها، وفي سويداء قلوبها، وإن صارت تحمل جنسيات البلدان التي احتضنتها. لن أناقش أسباب الهجرة لمن صاروا يسمون «مغاربة العالم»، بصفة عامة، والأدمغة المهاجرة بصورة خاصة. فالأسباب متعددة ذاتيا وموضوعيا. ولو توفرت الأسباب التي تبقيهم في أوطانهم لما فكر واحد منهم في الهجرة.
تقول إحصاءات جديدة بأن أعداد الطلبة والكفاءات المغربية في الخارج يخطئها العد، وهي تتزايد سنويا، وفي كل الاختصاصات. ألم يخلد المثل المغربي الذي يشيد بالوطن قولته: «قطران بلادي، ولا عسل البلدان»؟ فمن أوصلنا إلى جعل «عسل» الغربة، أفضل من «قطران» البلد؟ لا شك في أن هجرات الكفاءات المغربية منذ السبعينيات، مختلفة عن نظيراتها في الألفية الجديدة. فالهجرات الأولى جاءت تحت طائلة الإكراه. فأغلب المهاجرين، تلقوا أولا تعليمهم في المدارس الحكومية، حين كانت فعلا في المستوى، في الوقت الذي كانت المدارس الحرة، خاصة فعلا، فقط بمن لم يتمكنوا من مواصلة تمدرسهم، لعدم قدرتهم على مواصلة التعليم في المدارس العامة. كما أن أغلب هؤلاء، ثانيا، كانوا ينتمون إلى الأوساط الشعبية، أو الطبقة الوسطى. عاد العديد من هؤلاء إلى الوطن بعد التخرج، ولما لم يجدوا ما يمكنهم من البقاء لإثبات الحضور، آثروا الغياب بحثا عن منافذ وأوطان أخرى، توفر له الشروط الملائمة لتفجير الطاقات، والإعلان عن المواهب والاستعدادات.
أما النوع الثاني من هجرة الكفاءات، فجاء مرتبطا بتوجه سياسي للمسألة التعليمية، عمل من أجل إقبار المدرسة العمومية وإفراغها من محتواها، لفائدة التعليم الخاص. ولكي يقدم هذا التعليم نفسه بديلا عن التعليم الحكومي ادعى الجودة، والكفاءة، وتوفير مناصب الشغل. رأينا ذلك في كون كل المدارس العليا الخاصة، تركز في إشهاراتها ودعاياتها مع نهاية كل موسم دراسي، وبداية أي موسم جامعي بأنها تفتح أفقا للطالب، بعد تخرجه، لمتابعة دراسته في الخارج، مع إمكانية القيام بتدريبات تؤهله للحصول على وظيفة، عن طريق الشراكة مع جامعات خاصة أجنبية. وفي الوقت الذي بدأت قضية الهجرة غير الشرعية تتحول إلى واقع يؤرق الدول الأوروبية، وبرزت قوارب الموت التي كانت تدفع في اتجاه انتهاج سياسة طارق بن زياد، عن طريق «الحريق»، بسبب ما عرفته المدرسة الحكومية من تراجع، وجدنا ساركوزي، وهو يتذمر من الهجرة السرية، يرحب بالهجرة المنتقاة، ولم يكن المقصود بها سوى هجرة الكفاءات والأدمغة.
من كان بإمكانه تسجيل أحد أبنائه في المدارس الخاصة، سواء في الثانوي أو العالي؟ إننا أمام طبقة وسطى جديدة تتحمل كل المصاريف الباهظة لضمان مستقبل أبنائها، أو طبقة الأثرياء التي لا يؤثر ثمن التمدرس في رفاهية حياتها. وقلة قليلة ممن درسوا في المدارس الحكومية، وسمح لهم تفوقهم بمتابعة دراستهم في الخارج، إما بتضحية من أولياء أمورهم، أو بالحصول على منح من الدول المضيفة. فما الفرق بين الهجرة عبر قوارب الموت بسبب البطالة، والهجرة المنتقاة عبر التفوق؟ لا فرق بين هجرة أبناء الفقراء، والأغنياء إلا في ما يمكن أن تمنحه تلك الهجرة. إنهما يتساويان في تفضيل «العسل» على القطران، وإن كان بعض العسل هناك أمرّ من الحنظل هنا. إن عسل الهجرة المنتقاة يتيح جنسية ثانية للمهاجر، وإمكانية الجنسية للوالدين بعد تقاعدهما، عدا الامتيازات الخاصة لذوي الكفاءات والتميز. ولا داعي للحديث عن أخبار المهاجرين الآخرين، فالرواية المغربية تضطلع بالسرد عما يعانونه من عنصرية، ومحن ومعاناة.
أبانت الجائحة عن كفاءات مغربية وعربية لا حصر لها. لكن هناك كفاءات مهجّرة في الداخل، ولا مَن يلتفت إليها؟