تستمر الروايات في صدارة مبيعات الكتب في العالم لسهولة قراءتها واستمرار الناس في الاستمتاع بالسرد الروائي، وتأتي الكتب السياسية والاقتصادية في الصف الثاني في المبيعات وتقتصر عادة على المتخصصين والخبراء. ويحدث أن تشهد هذه الكتب فجأة إقبالا كبيرا للغاية بحكم الظرف والسياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتحكم في فترة زمنية. وشهدت سنة 2014 مثل باقي السنوات إقبالا على الكتب السياسية والاقتصادية وتلك المتعلقة بعالم الإنترنت. وتستمر كتب الغرب في الصدارة على حساب ثقافات أخرى لوفرة إنتاجه العلمي والفكري بفضل جامعات متميزة وتقاليد مراكز بحث وتقنية التواصل غير المتوفرة لدى قوى أخرى مثل الصين وروسيا.
وعمليا، ترتبط القراءة أو الإقبال على الكتب بشكل كبير بالسياق العام المتحكم في فترات زمنية معينة، تزدهر الروايات في مرحلة الرخاء وتتراجع نسبيا في وقت الأزمات خاصة إذا كانت عويصة وشائكة، حيث تبحث الناس عن أجوبة للأسئلة التي تؤرقها ومنها إجابات حول المستقبل.
وخلال السنوات الأخيرة، يعيش العالم وضعا متوترا ومقلقا جراء عودة الاضطرابات الى مناطق في الخريطة العالمية ثم الأزمات الاقتصادية المتتالية، وينضاف الى كل هذا استمرار تأثير شبكة الإنترنت في البشرية مما جعل فضائح مثل ويكليكس أو إدوارد سنودن تنتقل من مجرد الخبر العادي والمثير المتعلق بالجاسوسية الى كيفية التوفيق في الحفاظ على الحياة الخاصة في ظل استعمال آليات تواصل رقمية توفرها دول وتجعلها ضرورية للبشرية ولكن تخرق بها القانون.
“الرأسمال في القرن 21” يؤسس لخطاب اقتصادي جديد
وفي ظل كثرة الإنتاجات الفكرية سياسيا واقتصاديا، تكون بعض الكتب مجرد إجابات على أسئلة مرحلة معينة وتنتهي صلاحيتها مثلما تنتهي صلاحية استهلاك منتوج غذائي، وهناك كتب تصبح مرجعا لأنها تصبح مؤسسة لنظرية وبالتالي تستمر زمنا طويلا.
ويشهد الاقتصاد وخاصة في شقه السياسي “الاقتصاد السياسي” إنتاجا وافرا خلال السنوات الماضية بحكم الأزمة الاقتصادية الحالية. وتبقى الهيمنة للعالم الأنجلوسكسوني، فهو يتفوق سواء بمراكزه المالية مثل بورصة لندن ونيويورك أو وسائل إعلامه مثل مجلة ذي إيكونوميست ووال ستريت جورنال وقنوات تلفزيونية مثل بلومبيرغ.
وإذا كانت قد برزت ما بين سنتي 2011-2013 أسماء اقتصاديين كبار مثل جيريمي ريفكين بكتابه “الثورة الصناعية الثالثة” وبول كروغمان بكتابه الشهير “ضعوا حدا لهذه الأزمة”، فسنة 2014 تعتبر بامتياز سنة الفرنسي توماس بكيتي بكتابه المدهش “الرأسمال في القرن 21” الصادر عن دار النشر الفرنسية “سوي” أواخر السنة الماضية، لكن تأثيره الحقيقي سيبدأ مع الشهور الأولى لسنة 2014 بعد ترجمته للإنجليزية ويمتد التأثير الآن وسيمتد سنوات طويلة، وفق الكثير من الخبراء.
ونوعية هذا المؤلف الجديد هو ما جعل الجريدة الشهيرة فينانشيال تايمز تمنحه “كتاب السنة” في 2014 في مجال الاقتصاد. وخلال 2014 باع الكتاب أكثر من مليون نسخة وهو ما لم يحققه أي كتاب اقتصادي من قبل، منها 500 ألف باللغة الإنجليزية و160 ألف بالفرنسية و40 ألف بالألمانية و30 ألف بالكورية وينتظر أن يتجاوز مائة ألف في الصين. وترجم عموما الى 32 لغة باستثناء العربية.
والكتاب يعالج المشكل الرئيسي الذي يؤرق باحثين وحاكمين ويتجلى في استمرار وتطور اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية وتمركز الثراء والغنى في يد أقلية ومدى تأثير هذا على النمو الاقتصادي بل والتركيبة الاجتماعية. ويحاول هذا الباحث، الذي لم يتجاوز سنة 45 سنة، اعتمادا على قراءة بيانات الثروة وتوزيعها في الغرب وبعض مناطق العالم خلال 250 سنة الأخيرة التأكيد على الخلل الكامن في تراكم الرأسمال في يد أقلية وكيف لا يسمح للنمو الاقتصادي بالتطور، علما أن النمو يفيد المجتمع برمته. وبالتالي ترتب عن هذا الوضع التفاوت الاجتماعي الذي يهدد المجتمعات بل والتفاوت بين الدول.
وتتجلى قوة كتاب توماس بيكتي في المنهج التاريخي الذي اعتمده، فقد راهن على معالجته ودراسة فترة زمنية طويلة وهي قرنين ونصف قرن، الأمر الذي سمح له بالوصول الى استنتاجات لم يسبقه إليها باحثون آخرون الذين اقتصروا على دراسة فترات زمنية محدودة، وكانت البيانات الاقتصادية محدودة وانعكس ذلك في عدم فهم الرأسمال بعمق.
ومن الخلاصات التي ينتهي إليها هو أن القرن الواحد والعشرين لن يسجل نموا اقتصاديا قويا بل محدودا بسبب التفاوت في الغنى وهو ما سيحمل الكثير من الاضطرابات. ويطرح توماس بيكتي ضرورة مبادرات عمومية للدول ومنها إصلاح النظام الضريبي ليكون أكثر عدلا وسن ضريبة عالمية تضامنية على الثروة توظف في تنمية مختلف الدول والمجتمعات التي لا يقوى اقتصادها على المقاومة وتبقى دائما في حالة ضعف حقيقي.
ويعلق بول غروغمان صاحب نوبل في الاقتصاد لسنة 2008 “كتاب توماس بيكتي غير خطاب الاقتصاد لدينا، لم نتحدث من قبل عن الثروة والمساواة بالطريقة التي طرحها الكتاب”.
عودة صاحب ويكليس جوليان أسانج
وفي مجال آخر وهو مجال الإنترنت والمعلوميات، تتناسل الكتب وخاصة ذات الطابع التقني منها، وناذرا ما يحدث صدور كتاب هام حول مستقبل هذه الشبكة العنكبوتية التي تحولت الى مثل الكهرباء والماء الصالح للشرب بالنسبة للمجتمعات الحالية. وينفرد في هذا المجال وخاصة في العالم الناطق بالإسبانية كتاب “عندما التقى غوغل ويكليكس” ليوليان أسانج الذي نشر عبر جمعية ويكليكس وثائق الدبلوماسية الأمريكية. الكتاب صدر مؤخرا ويخلف جدلا سياسيا وعمليا وسيكون تأثيره الحقيقي السنة المقبلة، 2015.
وحكاية الكتاب مثيرة، فقد أجرى إريك شميدث المدير التنفيذي لشركة غوغل حوارا مع جوليان أسانج سنة 2011 حول مستقبل الإنترنت، وصدر الكتاب بعنوان “العهد الرقمي الجديد” سنة 2013. واتهم أسانج المدير التنفيذي لغوغل بتحريف متعمد لتصريحاته وتغيير أفكاره والمس بأطروحاته حول المستقبل الرقمي. واضطر صاحب ويكليكس الى تأليف كتاب مضاد.
ويقدم أسانج في الكتاب معطيات دقيقة في مجال الإنترنت، مؤكدا أن غوغل تحول الى إمبراطورية رفقة شركات أخرى أقل منه تأثيرا نسبيا وهي الفايسبوك وتويتر تعمل على رصد معظم أفراد البشرية الذين يدخلون الى الإنترنت ويستعملون هذه البرامج. ويطرح الكتاب كيف أصبحت كبريات الشركات العاملة فيما يصفها بالمجرة الرقمية تراقب الناس بشكل أقوى وأكبر من مختلف الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية وأجهزة استخبارات أخرى. وما كان يردده أسانج منذ مدة، أكده موظف وكالة الأمن القومي الأمريكي إدوارد سنودن بعدما سرب أرشيفات.
ويصف غوغل بالوحش الذي ينمو دون معرفة الشكل الذي سيتخذه مستقبلا. ويقول “إذا كانت شركات كبرى في العالم لديها نموذج من النمو والعمل مستقر مثل شركات عالم الطيران أو النفط، فنموذج غوغل القائم على الاتصالات والتواصل يتطور بشكل رهيب ويمتد الى مختلف باقي القطاعات بشكل لم يتم تسجيله من قبل”.
وحول هذه المراقبة الخطيرة، يسطر في كتابه “عندما يبحر الإنسان في الإنترنت يعتقد أنه حر وطليق، ولكنه يترك آثارا وبصمات يتم تخزينها سرا، وفي يوم من الأيام سيتم استعمالها ضده”، وبهذا يصبح المرء تحت رحمة العالم الرقمي وبالضبط تحت رحمة غوغل. ويكتب في هذا الصدد، “غوغل يعمل بآخر ما يوجد في تكنولوجيا المراقبة، فهو مثل الديانة لا يمكن خداعه ويراقب جميع حركاتنا بطريقة غير مرئية”. ويستنتج أن غوغل هي الدولة الأمريكية وهذه الأخيرة هي غوغل، بل ولا يتردد في تصريحات خلال تقديم الكتاب عبر نظام المحاضرة الرقمية في اسبانيا انطلاقا من سفارة الإكوادور في لندن التي يتواجد فيها بأن مدير غوغل يقوم بخدمات مباشرة لوزارة الخارجية مع دول أخرى.
ويكتب إغناسيو رامونيت، المدير السابق لشهرية لوموند دبلوماتيك عن الكتاب “ذكي ومحفز وضروري”. وهذا التقييم الصادر عن مفكر كبير من حجم رامونيت يبرز أهميته لكل قارئ.
كتاب “الرأسمال في القرن الواحد والعشرين” وكتاب “عندما التقى غوغل ويكليكس” تحولا بمجرد صدورهما الى مراجع على المستوى الدولي لفهم أعمق للاقتصاد من جهة للوقوف على التفاوتات في العالم، وفهم أعمق كيف حررت الإنترنت الإنسان وكيف أصبح بسبب برامج مثل غوغل ضحية تحت المراقبة باستمرار في العالم الرقمي بل وفي حياته الحقيقية بعيدا عن العالم الافتراضي.