يستمر موضوع الأندلس بكل تشعباته في فرض حضوره السياسي والثقافي نظرا للرمزية التاريخية التي يتمتع بها وما يتربت عنه من جدل فكري محتدم. ويختلف المثقفون والمؤرخون في طريقة المعالجة ورؤية الأندلس، بين أدباء يجعلون من الأندلس مصدرا للإلهام حيث تتصدر الروايات المستوحاة من التراث الأندلسي المبيعات في اسبانيا، وبين مؤرخين يحاولون استخراج معاني التعايش التي سادت في الماضي ويوظفونها في عالم اليوم الذي يحتاج لهذا التعايش والحوار. وفي الوقت ذاته توجد فئة تنفي عن الأندلس الرمزية وتعتبرها حقبة عادية، وهؤلاء المثقفين والمؤرخين ينتمون الى يمين محافظ متعصب لكل ما هو مسيحي.
ومن الكتب التي صدرت مؤخرا في اسبانيا حول هذا الموضوع كتاب “أسطورة الأندلس” لمؤلفه خوسي أنتونيو غونثالث ألكنتود عن دار النشر “ألموسارا” الواقع في 370 صفخة من الحجم الكبير، كتاب يرصد أصول أسطورة الأندلس واستمرار سحرها الثقافي والسياسي الذي تمارسه على واقع اليوم.
والمؤلف ألكنتود هو أستاذ جامعي في غرناطة وصدرت له مؤلفات عديدة حول العالم العربي ومنها بالخصوص حول المغرب والأندلس. ويؤكد حول الكتاب الجديد أن الهدف هو “البرهنة على شرعية استحضار أسطورة الأندلس لفهم السرد التاريخي الخاص بالبحر الأبيض المتوسط”، مضيفا أن الأندلس احتلت محورا هاما في مخيال ووجدان وواقع شعوب البحر الأبيض المتوسط ويستمر تأثيرها اللامتناهي.
ويرصد مراحل مفهوم “أسطورة الأندلس” منطلقا من وصول المسلمين الى اسبانيا سنة 711، وهو تاريخ يشكل رمزية خاصة سواء للغرب أو الشرق وحيكت حوله أساطير وروايات ويعتبر من المنعطفات الهامة في تاريخ الإنسانية وخاصة تاريخ الأديان، ويتتقل بين جميع الحقب التاريخية للأندلس حتى عمليات الترحيل القسري والطرد. ثم يقبض على العناصر الهامة في الحضارة الأندلسية التي جعلت منها فضاءا للتعايش طيلة قرون دون أن يصبغ طابع المثالية المطلقة في تقييمه لهذه الحقبة التاريخية الطويلة من تواجد السلطة الإسلامية في الأندلس.
ويقف الكتاب في آخر المطاف عند استمرار حلم العودة لدى الموريسكيين الذين جرى تهجيرهم ما بين أواخر القرن الخامس عشر وبداية السابع عشر نحو مختلف مناطق البحر الأبيض المتوسط. وحول هذا الحلم، يقول ألكنتود في كتابه أنه لم ينتهي مع الطرد بل يستمر في ثقافة الموريسكيين المهجرين. ويخص بالدراسة والحليل موريسكيي المغرب القرب جغرافيا للأندلس وأكثرهم تشبثا بالمطالب التاريخية مثل استعادة الجنسية الإسبانية. ومما أحيى الجدل حول حق العودة للموريسكيين هو قرار حكومة اسبانيا خلال لاسنة الجارية منح حق استعادة الجنسية للسفارديم، يهود الأندلس الذين طردوا في الماضي.
وبعد معالجته لمختلف التصورات حول الأندلس في ثقافات المتوسط وأطروحات المفكرين، ينتهي ألكنتود الى أن “اسطورة الأندلس هي أسطورة إيجابية لأنها تحيلنا على قيم وأخلاق وتعايش ، وكل هذا يستوجب منا التفكير المستقل في هذه الأسطورة بعيدا عن التأويلات السياسية الرخيصة”.
ومن إيجابيات الأندلس، وفق الكاتب، وجود مظاهر الحضارة الأندلسية في كل مدن البحر المتوسط ومناطق أخرى من العالم، فهي لم تنتهي مع طرد الموريسكيين بل تسمرت فكرا وتقاليد.، فقوة حضارة مثل هذه، قد طبعت هذا الحوض المائي (المتوسط) الى الأبد وتستمر بصماتها جلية حتى الآن ومستقبلا.
وحول هذا التفكير المستقيل حول الأندلس، يدعو الى التخلي عن التصورات الجاهزة التي ترى موضوع الأندلس من زاوية سياسية وتاريخية ضيقة تتجلى إما في سيطرة الشرق لفترة معينة في اسبانيا ثم سيطرة الغرب بعد طرد المسلمين بعيدا عن القيم التي تشكلها الأندلس بغض النظر عن الديانات. ويبرز الكاتب أن هذه النظرة الضيقة هي التي تسمح في الوقت الراهن باستمرار الاحتفال بسقوط غرناطة احتفالا رسميا مما يعنيه من إقصاء الآخر، المسلم الموريسكي وتمجيد المسيحي، وتوظيف هذا التراث في خطاب سياسي قومي من طرف حركات وأحزاب يحمل الكثير من المخاطر.
وفكريا، يحذر الكاتب من الأطروحات المتطرفة التي تقدم روايات مريبة. وبهذا يحيل على أطروحات ظهرت في الأونة الأخيرة تنفي أي دور للحضارة الأندلسية في النهضة الأوروبية وفي تقدم اسبانيا.
وينتقل الكاتب بين مراحل التاريخ، ويصل ال الربيع العربي-الأمازيغي، ويستحضر أسطورة الأندلس. ويكتب في هذا الصدد أن الفكر الأندلسي سياسيا سجل حضوره من خلال الدستور المغربي الذي لم يتردد في نسخته المعدلة خلال يوليوز 2011 بفضل حركات منها 20 فبراير بإدماج الهوية الأندلسية في الدستور لتكون الهوية المغربية متعددة التصورات والثقافات. ويعتبر المغرب أول دولة ينص دستورها على المكون الأندلسي للهوية المغربية، وكانت قد سبقتها فقط حكومة الحكم الذاتي في الأندلس التي نصت على المكون الأندلسي واستندت الى أطروحة المفكر بلاس إينفانتي “أب القومية الأندلسية “، وهو سياسي عاش في أواخر القرن التاسع عشر وتعرض للإغتيال مع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية سنة 1936، وكان قد رفع شعار “وحدة شمال المغرب وجنوب اسبانيا” لتأسيس ما يشبه الفيدرالية الأندلسية.
وبهذا الكتاب القيم، ينضم ألكنتود الى نادي المفكرين والمؤرخين المستقلين أمثال خوان غويتسيلو وأمريكو كاسترو وبلاس إينفانتي الذين ينصفون المساهمة القيمة للحضارة الأندلسية في تاريخ البحر الأبيض المتوسط ويرفعون هذه المساهمة الى مستوى جعل الأندلس “أسطورة حية”.