سألتني شخصية سياسية محترمة، تتابع بدقة ما أكتبه: «ألا ترى أن مقالاتك المتواترة عن زميلك توفيق بوعشرين لا تخدم كثيرا صورتك الإعلامية لدى قارئ ربما لن يروقه، أيضا، دفع ثمن الجريدة لقراءة موضوع يتكرر، وإن من جوانب مختلفة؟».
أجبت: «هذا عين ما تريد الجهة التي حبكت سيناريو اعتقال بوعشرين، فهي تراهن على ذاكرة المغاربة التي أصبحت قصيرة ومشتتة، بعد ضرب قيم التضامن التقليدية، واستشراء فردانية، أنانية، خالية من كل مقومات بناء أشكال ترافع وتضامن حديثة».
ذكَّرت محاوري -وهو قارئ جيد للأدب- بمضمون هذا المقطع من رواية ميلان كونديرا l’insoutenable légèreté de l’être، يقول فيه: «منذ زمن ليس ببعيد، باغتني شعور غير معقول؛ كنت أتصفح كتابا عن هتلر، فوجدتُني متأثرا ببعض صوره، ذكرتني بزمن طفولتي التي عشتها خلال الحرب. كثيرون من أفراد عائلتي لقوا حتفهم في معسكرات اعتقال نازية. لكن، ما أهمية موتهم أمام صورة هتلر التي ذكرتني بزمن غابر من حياتي، بزمن لن يعود؟ إن هذه المصالحة مع هتلر تفضح عمق الشذوذ الأخلاقي الملازم لعالم مبني أساسا على انعدام العَود (le retour). ذلك أن كل شيء في هذا العالم مغتفر سلفا، وكل شيء مسموح به بوقاحة».
إن هذا «الشذوذ الأخلاقي» هو عينه ما تراهن عليه الجهة التي استثمرت، ولاتزال، في جعلنا متسامحين مع مشاهد قتل الناس وتعنيفهم واعتقالهم وتخويفهم، ومشاهد شحاذين يستعرضون عاهاتهم في الشوارع والأسواق. هذا «الشذوذ الأخلاقي» هو ما يجعلنا نتناول، بشهية مفتوحة، طعامنا أمام تلفزيون يعرض مشاهد تقتيل الفلسطينيين والسوريين…
تعالَ معي –استطردت قائلا لمحاوري- نسأل طلبة معاهد الصحافة والإعلام، وحتى الصحافيين الجدد، عمن يكون أبوبكر الجامعي أو علي المرابط أو أحمد بنشمسي… بل تعال نسألهم واحدة واحدا: «لماذا اختاروا أن يكونوا صحافيين؟»، لنسمع ونرى حجم الكارثة.
إن الجهة التي أكرهت آخر الصحافيين المستقلين على المنافي، هي التي أكرهت توفيق بوعشرين بدنيا. وبعدما فشلت في إقناع المغاربة والعالم بأنه وحش مغتصب ومتاجر بالنساء، ها هي تراهن على إصابتهم بـ«الشذوذ الأخلاقي»، حيث كل شيء مغتفر سلفا، وكل شيء مسموح به بوقاحة، وحيث نواجه الظلم بحيادية وبرودة أعصاب، طالما أنه لم يمسسنا نحن.
إن قضية توفيق بوعشرين عُجنت بظلم كبير فاق كل الحدود، وأنا أتساءل دائما: هل عرف التاريخ قضية استعملت فيها 13 امرأة، منهن من تبولت في ملابسها من رعب التحقيق، ومنهن من اقتُحم بيتها وجرجرت مغمى عليها إلى مخفر الشرطة ثم إلى المحكمة لأنها رفضت اللعبة، ومنهن من أعلن تضامنهن مع بوعشرين بعد اعتقاله، وعندما دخلن مقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية خرجن منه «مغتصبات ومتاجرا بهن»، ومنهن من أدينت بستة أشهر حبسا نافذا لأنها قالت: «إن ما جاء في المحضر لم أصرح به ولا يعنيني»، ومن أدينت بسنة حبسا موقوف التنفيذ مباشرة بعدما خرجت تقول: «توفيق بوعشرين لم يغتصبني ولم يحاول اغتصابي.. ما دفعت شكاية.. ما عرفت هادشي منين نزل علي»، ومع ذلك اعتبرتها المحكمة –ويا للغرابة والعجب العُجاب- ضحية اتجار بالبشر!
حتى المختبر الوطني للدرك الملكي، الذي لجأت إليه المحكمة للتحقق من الأشرطة والكاميرا التي قيل إنها حُجزت في مكتب بوعشرين، زاد في العلم بدل أن يقدم الخبرة العلمية المطلوبة منه، حين لم يكتف بفحص الفيديوهات والمعدات المعروضة عليه، بل أضاف ميكروفونا وموصلات (câbles) لا علم للمحكمة بها، ولم يرد ذكرها ضمن المعدات التي قيل إنها حجزت يوم مداهمة مقر «أخبار اليوم»، وجرى إدراجها في محضر التفتيش والحجز الذي أنجزه تقنيو الفرقة الوطنية للشرطة القضائية.
فلماذا، إذن، أضاف مختبر الدرك الملكي ميكروفونا وأسلاكا موصلة، هو الذي لم يكن مطلوبا منه سوى أن يتحقق من صحة الأشرطة؟ جواب هذا الأمر أسعفنا به دفاع بوعشرين الذي أكد أن المواصفات التقنية للكاميرا المذكورة في محضر الحجز (كاميرا صغيرة سوداء اللون من نوع IM-630C) لا تتوفر على خاصية تسجيل الصوت ولا توصيله! وهذا أعطى مشروعية لطرح سؤال محرج: هل أضاف مختبر الدرك الأسلاك الموصلة والميكرفون لإعطاء معنى للكاميرا «الصماء البكماء» التي يستحيل أن تنتج لنا أشرطة ناطقة بالصوت كالتي عرضت أمام المحكمة؟
إننا، لو كنا في دولة القضاء فيها سلطة حقيقية، لأغلق الملف مباشرة بعد توصل المحكمة بتقرير خبرة الدرك، ولفتحت ملفات أخرى لكل من تبين أنه تلاعب في هذا الملف. ولو كانت لدينا صحافة قوية ومستقلة، لرأينا مقالات وتحقيقات وعناوين عريضة حول هذه «الزيادة في العلم»، لكن صحافتنا، في هذا الملف، أنظفها خاف وصمت، والباقي أمعن وتفنن في التشهير بمن يفترض أنه زميل معتقل تعسفا، أقر العالم الحر، كله، بمظلمته.
هل فهمت لماذا لن أصمت عن الظلم الذي لحق توفيق بوعشرين، مثلما لم أصمت عن الظلم الذي لحق علي المرابط، عندما كنت منسق لجنة التضامن معه، أو الظلم الذي لحق المعطي منجب عندما كنت، إلى جانب كريم التازي وسيون أسيدون، رئيس لجنة التضامن معه، أو ما حاق بعلي أنوزلا وحميد المهدوي، وأنا عضو لجنة التضامن معهما؟ -قلت لمحاوري- لأنني لا أريد أن أصالح هتلر، بالمعنى الذي تحدث عنه ميلان كونديرا.