قامت “جبهة البوليساريو باعتماد سفارة لها بجمهورية بنما، بتاريخ 7 من يناير 2016، بعدما وافقت الحكومة الائتلافية لبنما (اليمين-الوسط) على ذلك، ويحدث هذا بعدما قامت خلال شهر نوفمبر من سنة 2013، الحكومة الائتلافية السابقة (اليمين-المحافظ) بتعليقها لعلاقاتها الديبلوماسية مع الجبهة، العائدة لسنة 1978، بعدما قدرت بأن (“جبهة البوليساريو” ليست لها مقومات إنشاء دولة مستقلة، الأرض و الاستقلال و الساكنة و الحكومة و الاعتراف الدولي بها) بحسب تعبير بيان صادر عن وزارة خارجية جمهورية بنما وقتها.
أيام قليلة بعد ذلك، اعتمد المغرب سفارة له بذات البلد، بتاريخ 12 من يناير 2016، خمسة أيام بعد افتتاح تمثيلية الجبهة الديبلوماسية، وهذه الوثيرة المتسارعة في اعتماد السفارات تؤكد استمرار الصراع المحموم بين المغرب والجبهة في منطقة أمريكا اللاتينية، تزكيه الزيارات المكوكية، المتتالية و المتعاقبة، للعديد من البعثات الديبلوماسية المغربية و الوفود التابعة للجبهة، باتجاه القارة الأمريكية اللاتينية، خاصة طيلة الثلاث أعوام القليلة الأخيرة.
المقالة التالية ستقوم بتقديم قراءة لقرار بنما معاملة المغرب و الجبهة على قدم المساواة و مقاربة سياستها الخارجية الجديدة و تصورها لعلاقاتها الدولية على ضوء هذا القرار المستجد. بالجهة المقابلة، ستقوم المقالة بمسائلة أداء الديبلوماسية المغربية تجاه هذه المسألة و حدود مسؤوليتها، و ذلك بطرح تساؤلات و إبداء ملاحظات بهذا الصدد. ناهيك عن تقديم تفسير لسلوك بنما الجديد تجاه المغرب و الجبهة، و بالنهاية تقديم توقعات مستقبلية لمألات القرار، سيَّما انعكاساته المحتملة و تقديم الردود الفعلية المغربية المحتملة على قرار مقايسته بتنظيم الجبهة على قدم المساواة.
توقيت تحوم حوله شكوك و افتراضية التسريب واردة
أولا، بالنسبة لتوقيت إعلان افتتاح سفارة تنظيم الجبهة، تزامنا مع عزم المغرب افتتاح سفارة له ببنما، فليست خلفياته بريئة و تحوم حوله شكوك. فالأرجح أنه قد يعد أمرا مدبرا مسبقا و مقصودا و مدروسا، لغاية معينة. الرابح منه أساسا هو بنما و ذلك للعديد من الأسباب المتعلقة بالصورة الخارجية للدولة. فتزامن إعلان افتتاح سفارتين جديدتين ببنما، قدم الأخيرة (بنما) بالعديد من القصاصات الاخبارية لوكالات أنباء العالم على أنها دولة يتهافت عليها الجميع، مثلما قدم لها خدمة اعلانية مجانية، إشهارية و تسويقية، بالصحافة الدولية، جعلها محط اهتمام أنظار المنتظم الدولي.
امكانية تسريب إعلان تاريخ افتتاح السفارة المغربية بدورها واردة. هذا الطرح يزكيه تاريخ إعلان افتتاح سفارة الجبهة ببنما، أيام قليلة فقط على قيام وزير الخارجية صلاح الدين مزوار بنما قصد افتتاح السفارة المغربية، حيث يستبعد إلى حد كبير أن يكون هذا التزامن مجرد صدفة بحتة. هذا التاريخ على ما يبدو يفيد بأن تنظيم الجبهة كان على علم مسبق بزيارة مزوار. أمَّا الهدف من التسريب، المشكوك فيه، فهو إظهار تنظيم جبهة “البوليساريو” بمثابة المُبادر إلى افتتاح سفارته ببنما و تقديم المغرب على أنه فقط يقوم بمزاحمة الجبهة بأمريكا اللاتينية.
اعتماد تنظيم جبهة “البوليساريو” لسفارة له ببنما، لم يكن مفاجأ بتاتا و إنما كان متوقعا للغاية، و ذلك بالنظر للعديد من الاعتبارات المتعلقة أساسا بالجزائر و بنما. فتأشير بنما على اعتماد تنظيم جبهة “البوليساريو” لسفارة لديها أقدم على إعلانه علانية وزير الشؤون المغاربية والافريقية للجزائر، الحاضنة و الداعمة للنزعة الانفصالية بجنوب المغرب، منتصف شهر نونبر من سنة 2015، و ذلك بمقابلة صحفية بالقناة الثالثة الجزائرية، مستبقا بذلك، بثلاثة أشهر تقريبا، قرار جمهورية بنما نفسها، السماح للجبهة الانفصالية بإقامة تمثيلية ديبلوماسية لها على أراضيها.
الاعتبار الآخر، يهم بالتحديد بنما، حيث سبق و أن أعلنت وزارة خارجية حكومة بنما الجديدة (اليمين-الوسط) شهر دجنبر من سنة 2014، مباشرة بعد تسلمها مقاليد الحكم و مباشرتها تدبير أمور الدولة السيادية و الخارجية، (أعلنت) نيتها إعادة النظر بقرار اتخذته الحكومة السابقة، قام بتعليق الاعتراف بجبهة “البوليساريو”، خاصة إذا استحضرنا أن بنما تعترف بالجبهة منذ سنة 1978، إبَّان سيادة الديكتاتورية العسكرية اليسارية بالبلاد بزعامة عمر طوريخوس و اعتمدت آنذاك سفيرا لها بها، أحمدو ولد سويلم، سفير المغرب المملكة السابق في اسبانيا الذي عاد الى الوطن.
المغرب على الأرجح لم يلتقط الإشارة و لم يفهم الرسالة
الأكيد، بالنسبة لمحاولة فهم حيثيات القرار، أن بنما قامت، شهر نونبر من سنة 2013، للأسباب المشار إليها أعلاه، بتعليقها الاعتراف بتنظيم جبهة “البوليساريو” و مرت ثلاث سنوات تقريبا و أعادت اعترافها بالجبهة. فما هو سر هذه السنوات من الفراغ؟ المسألة كانت واضحة منذ البداية. فبنما فقط علقت اعترافها سنة 2013، إلا أنها لم تقم بسحبه، و هذا بالمناسبة، سبب آخر، يرجح كفة افتراضية امكانية عودة بنما للاعتراف، مثلما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا، حينما تم التقدير بأن قرار اعتراف بنما بتنظيم الجبهة من جديد، لم يكن مفاجأ بتاتا و إنما متوقعا للغاية.
بالنسبة للثلاث سنوات الفاصلة بين تعليق بنما الاعتراف بتنظيم الجبهة (سنة 2013) و إعادة اعترافها بذات التنظيم (سنة 2016) فقد كانت فرصة سانحة بالنسبة للديبلوماسية المغربية للمبادرة بمفاوضة بنما بهدف إقامة علاقات ديبلوماسية معها، و ذلك بإقناعها بعدم اعترافها بالجبهة كونها ليست بعد دولة قائمة الذات و إقناعها بأن مصلحتها مع هذا الطرح. هذا الأمر لم يقع، و على ما يبدو المملكة تعثرت في ذلك، إلا أن الأرجح فهو أنه طيلة هذه المدة لم يتحرك المغرب كفاية، و إنما تحركت الجبهة، المدعومة من طرف الجزائر، و تمكنت بذلك من استعادة علاقاتها مع بنما.
بالعودة إلى قرار الاعتراف بجبهة “البوليساريو” و معاملتها و المغرب على قدم المساواة، فقد تعتبره الجبهة انصافا لها و قد يعتبره المغرب إجحافا في حقه و قد تراه بنما حيادا، بينما يعد بالنسبة للسياسية الخارجية لبنما الجديدة، سياسية واقعية، و بالنسبة لمنطق العلاقات الدولية، فيعد الأمر براغماتية بامتياز. أمَّا فتح سفارة لتنظيم الجبهة ببنما، فلا يعني بالضرورة اعتراف بنما بالجبهة كدولة قائمة بذاتها، و إنما فقط كطرف ينازع المغرب على الصحراء و يفاوضها بخصوصها بهيئة الأمم المتحدة. فبنما ليست عبيطة إلى هذا الحد و تعرف حدود المناورة.
قوة ديبلوماسية بنما و ضعف الديبلوماسية المغربية
إلا أنه بالجهة المقابلة، قامت بنما على ما يبدو، وفقا لنتائج المفاوضات و الأمر الواقع المستجد، بقيادة عمليتها التفاوضية مع المغرب بحنكة و من موقع قوة. لماذا؟ لسبب وجيه، و هو أنها نجحت على الأرجح في اعتماد تصورها لعلاقتها الديبلوماسية مع المغرب على شاكلة المغرب و المكسيك، حيث اعتماد سفارة للمغرب و سفارة للجبهة على حد السواء، باعتبارها الحالة الاستثنائية الوحيدة بأمريكا اللاتينية حيث يجتمع المغرب و الجبهة على قدم المساواة، و بهذا تكون بنما قد فاوضت مفاوضة الكبار بالمنطقة. هذا الطرح، إذا ثبت، سيفيد بأن المغرب لم يقنع بنما.
امكانية عدم اقناع المغرب لبنما المفترضة، دفعت بأصوات من المغرب إلى تقديم تصريحات و قراءات، تدفع باتجاه عدم إعطاء أهمية كبيرة للموضوع، حيث قللت من شأن عدم حزم المغرب بهذا الصدد و عدم رفضه قبوله تعايشا مع النزعة الانفصالية بجنوبه ببنما، إلا أن هذا الأمر خطير للغاية و بوسعه إعادة معادلة النزاع إلى النقطة الصفر بعدما حققت فيها المملكة توازنا. فقد تفهم منه العديد من الأطراف بأمريكا اللاتينية بأنه “اعتراف” ضمني من المملكة بالجبهة، و بذلك يكون المغرب فتح بابا سيصعب عليه غلقه، و الأخطر أنه قد يصبح مقياسا مرجعيا يُعتمد عليه.
أمَّا بالنهاية، فيرتقب على الأرجح بعد افتتاح المغرب لسفارته ببنما و تقبله مكرها تعايشا مع جبهة “البوليساريو”، تحجيمه لتمثيليته الديبلوماسية، أو إرجاء تسمية سفيره، أو تأخير إجراء تقديمه أوراق اعتماده ببنما، و ذلك بالاكتفاء بتمثيله بمجرد بقائم بالأعمال فقط. هذا إن لم تشهد العلاقات البينية أصلا جمودا أو فتورا. هذا الترقب، الجائز و المباح بالأعراف الديبلوماسية، سيضع المغرب في موقف حرج، حيث ستنظر إليه بنما على أنه يعتمد عندها سفيرا مع وقف التنفيذ بينما تعتمد عنده سفيرة مفوضة فوق العادة منذ شهر أبريل من سنة 2015.
إن ما وقع من تعليق للاعتراف بتنظيم جبهة “البوليساريو” من طرف بنما و إعادة الاعتراف بها من جديد، قد يتكرر مستقبلا. فهذه النازلة لها سوابقها بأمريكا اللاتينية، حيث العديد من جمهورياتها اعترفت أو علقت أو جمدت أو قطعت علاقاتها بالجبهة ثم أعادت تطبيع علاقاتها معها. لفهم هذا الأمر، يجب استحضار أن أمريكا اللاتينية تتأثر سياساتها الخارجية بالأيديولوجية و بموازين القوة الاقليمية. فمثلا بنما اليوم تتمركز بجانب كوبا و فنزويلا. هذا الأمر يطرح من جديد تبعية جمهوريات أمريكا اللاتينية و استقلالية قراراتها السيادية، خاصة بعلاقاتها الخارجية.
أحمد بنصالح الصالحي: مهتم و متتبع للعلاقات المغربية-الإسبانية و العلاقات المغربية-الأمريكية اللاتينية