في مناطق مختلفة على رأسها الشرق الأوسط وأوروبا: كيف حمل شهر سبتمبر تراجعا جيوسياسيا لواشنطن؟

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

تشكل التطورات السياسية العنيفة التي يشهدها العالم لاسيما في ملفات حارقة وشائكة مثل أوكرانيا وبولندا وقطر والبرازيل وميل الهند للصين وروسيا محدودية التأثير الأمريكي على صنع القرار الدولي، لأنها تطورات تبرز ضعف الرئيس دونالد ترامب في الحصول على تعهدات من مخاطبيه مثل نظيره الروسي فلاديمير بوتين. والمثير أنها تهم أربع مناطق جيوسياسية مختلفة في التوجهات السياسية والاجتماعية، ما يزيد من تفاقم تراجع النفوذ الأمريكي.
وهكذا، ومنذ بداية ايلول/سبتمبر الجاري، وقعت تطورات تضرب في العمق مساعي ترامب للسيطرة على الكثير من النزاعات في العالم. ويبقى النجاح الوحيد حتى الآن هو دوره بين الرئيسي والثانوي في احتواء الحرب بين الهند وباكستان التي كانت قد اندلعت منذ شهور، ونجحت وساطته في تجنيب المنطقة نزاعا كان مرشحا لكي يتطور إلى حرب حقيقية وخطيرة على السلام العالمي بحكم امتلاك البلدين السلاح النووي.
شكّلت قمة شنغهاي التي استضافتها الصين بمشاركة عشرات الدول، وفي مقدمتها الدولة المنظمة وروسيا والهند، أول انتكاسة للنفوذ الأمريكي في مسار ترامب. فقد اتفقت الدول الثلاث على ضرورة تعديل النظام العالمي الحالي نحو نظام متعدد الأقطاب، لا ينفرد فيه الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، بالكلمة الفصل في صنع القرار الدولي والعالمي. وقد أقرّ الرئيس ترامب بأن قمة شنغهاي مثّلت خسارة لواشنطن على صعيد علاقتها بالهند، بعدما كان البيت الأبيض يعوّل عليها لدعم استراتيجيته الرامية إلى احتواء الصين في جنوب شرق آسيا بمساندة الدول المجاورة. وهذه الاستراتيجية تقوم على احتواء الهند برا في شرق آسيا بينما تحتويها الولايات المتحدة بحرا عبر جزر اليابان والتواجد في دول مثل الفلبين وكوريا الجنوبية.
وفي ملف آخر، فقد حاولت إسرائيل خلال الأسبوع الجاري اغتيال قادة حركة حماس الفلسطينية في العاصمة القطرية الدولة، وذلك وسط اندهاش للعالم بحكم أن الدور الذي تلعبه قطر في حل الكثير من النزاعات بين العالم العربي-الإسلامي والغرب وإسرائيل وعلى رأسها فلسطين وأفغانستان وإيران ضمن ملفات أخرى علاوة على أن واشنطن وتل أبيب قدما طلبا للدولة لاحتضان قيادة حماس، وفق تصريح لوزير خارجية قطر الجمعة من الأسبوع الجاري في لقائه بنظيره الأمريكي ماركو روبيو لمعالجة انعكاسات الهجوم الإسرائيلي على قطر. عموما، استأثر هذا الحادث الخطير باهتمام المحللين في العالم، ورغم اعتراف البيت الأبيض بعدم علمه بالضربة في البدء، إلا أن واشنطن تبقى الخاسر الأكبر دبلوماسيا على الصعيد العالمي بحكم أن الكيان خسر دبلوماسيا وتدهورت صورته كثيرا. وتتجلى خسارة الولايات المتحدة فيه أنها فقدت صفة راعي مفاوضات السلام بين الغرب والعالم العربي-الإسلامي، وتساءلت أكثر من جريدة مثل «لوموند» و«الباييس» ومجلة «ذي شبيغل»: هل يمكن الثقة في واشنطن كوسيط للسلام بعد حاث قطر. في الوقت ذاته، لم تحترم واشنطن اتفاقية الدفاع المشترك التي تجمعها مع دول الخليج العربي ومنها مع قطر. وهذا سيدفع بدون شك دول الخليج إلى عدم الثقة في الولايات المتحدة ومحاولة تعزيز العلاقات مع الدول الكبرى الأخرى مثل الصين وروسيا.
ومن الضربات الأخرى التي تلقتها إدارة ترامب هذه الأيام ما يجري في الحرب الروسية-الأوكرانية من تطورات ملفتة وخطيرة. فقد كان الجميع يعتقد في بدء إيجاد حل للحرب التي اندلعت في شباط/فبراير 2022، ولاسيما بعد لقاء ترامب مع نظيره الروسي بوتين في ألاسكا. غير أن هذا الأسبوع حمل أحد أشرس الضربات الجوية الروسية ضد أوكرانيا، وبدء مناورات عسكرية بين بيلاروسيا وروسيا بالقرب من حدود بولندا، ثم اختراق طائرات مسيرة الأجواء البولندية والسقوط في أراضي هذا البلد العضو في الحلف الأطلسي. طالبت بولندا بتفعيل اتفاقية الحلف الأطلسي تحسبا لأي طارئ حربي مع روسيا.
وفي منطقة جغرافية أخرى، وهي أمريكا اللاتينية، تلقت واشنطن هزيمة أخرى خلال ايلول/سبتمبر الجاري وبالضبط وسط هذا الأسبوع وتتجلى في الحكم الذي أصدره القضاء البرازيلي في حق الرئيس السابق بولسونارو بـ 27 سنة سجنا بتهمة التخطيط للانقلاب. وكان دونالد ترامب قد هدد البرازيل بعقوبات اقتصادية وسياسية، وقام وزير خارجيته ماركو روبيو بإلغاء التأشيرة لقضاة المحكمة العليا في البرازيل. هذا الحادث يبرز كيف أن البرازيل لم تخضع للولايات المتحدة بل تفضل الدفاع عن مصالحها بشرف كبير. وكشفت جريدة «فولها» الواسعة الانتشار كيف أنه لا يجب قبول ما وصفته باستفزازات ترامب، ورفضت استعماله تعبير «ملاحقة السحرة» في وصف محاكمة بولسونارو. وجرى استعمال «ملاحقة السحرة» في الحملة التي كان يشنها السيناتور مكارثي ضد من وصفهم بالشيوعيين في أوساط المثقفين وفنانين هوليوود. في الوقت ذاته، حملت واشنطن شعار الديمقراطية طيلة عقود طويلة، والآن تدافع عن محاكمة رئيس حاول الانقلاب العسكري على الديمقراطية والعودة إلى الانقلابات العسكرية التي كانت تشهدها المنطقة ما بين الستينات ونهاية الثمانينات.
هذه الأحداث التي وقعت في ايلول/سبتمبر وقد تتفاقم خلال الأسابيع المقبلة، تشكل إنذاراً بأن الدور التقليدي للولايات المتحدة كقوة مهيمنة آخذ في الانكماش أمام صعود قوى أخرى واستقلالية قراراتها السيادية سواء كبرى مثل الصين وروسيا أو إقليمية مثل البرازيل. وهذا التراجع الجيوسياسي يحصل ضد رغبة ترامب الذي إعادة مظاهر النفوذ القوي للولايات المتحدة في الساعة الدولية تماشيا مع «لنجعل أمريكا قوية مجددا». وفي رد فعل على الإحساس بالهزيمة الجيوسياسية يمكن تلخيص كل هذا فيما كتب الرئيس ترامب يوم 5 ايلول/سبتمبر الجاري عن ملف الهند وهو ينطبق على الملفات الأخرى، في شبكته الاجتماعية ثروث سوشال رفقة صورة للرئيس الروسي بوتين والهندي مودي والصيني شي جين بينغ تعليقا عميقا «يبدو أننا فقدنا الهند وروسيا لصالح الصين، الأعمق والأكثر ظلمة. أتمنى لهم مستقبلاً طويلاً ومزدهراً معاً».

Sign In

Reset Your Password