ارتاد أحمد أمين في النصف الأول من القرن العشرين مشروعاً لاستيعاب التراث العربي وتجاوز بنائه السلفي على صعيد المضمون والقضايا وطريقة العرض والتأليف، تمكن خلاله من صياغة الفضاء الواسع الذي أصبحنا نسميه اليوم بـ «الفكر العربي الإسلامي».
وفي النصف الثاني من القرن نفسه قام مفكران كبيران أحدهما في المغرب وهو عبدالله العروي، والآخر في المشرق هو زكي نجيب محمود بمهمة نقد هذا الفكر سواء في ضوء مطلب النهضة العربية عموماً على منوال ما فعل العروي في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» عام 1967، وفي ظل المطلب نفسه، مضافاً إليه ضغوط هزيمة 1967 واهتزاز عقيدة القومية العربية علي منوال ما فعل زكي نجيب محمود في كتابه «تجديد الفكر العربي» عام 1970 والذي استحال مشروعاً امتد عبر ثلاثة وعشرين مؤلفاً حتى عام 1991. وفيما انتهي العروي إلى طرح أسئلة كبرى على التيارات الثلاثة الكبرى في الثقافة العربية «العلمي والليبرالي والسلفي» محاولاً اقتراح إجابات تدفع باتجاه نماء الليبرالي وذبول السلفي، سواء في عمله الأساسي هذا، أو في أعماله التالية، قدم زكي نجيب محمود صياغته (الأصالة والمعاصرة) داعياً إلى توفيق يتجاوز التماهي اللامشروط مع الحداثة، والاستسلام الخانع للتراث.
في هذا السياق يمثل المفكر العربي المغربي (الراحل) محمد عابد الجابري ما يكاد يكون مرحلة ثالثة في مسيرة الوعي العربي. فهو مفكر نهضوي عربي جامع مانع على حد قول اللغويين، صاحب بنية تحليلية متفردة تلبي طموح أعتى البنيويين، ألقى بظله على مرحلة كاملة في تاريخ وعينا العربي بالذات كما لا بد أن يتوقف المؤرخون خصوصاً مؤرخي الأفكار، عند ذلك العلم الذي لم يتفق على سوقه في الثقافة العربية بعد.
أنتج الرجل نحو ثلاثين كتاباً على مدار أربعة عقود تبدأ بكتاب «العصبية والدولة… معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي» 1971م. قارب خلالها موقفنا من التراث محاولاً تأكيد «شيوعيته»، أي تقريبه للأذهان ووضعه أمام العيان، نازعاً عنه غرابته عن المثقف والمتلقى. أما عمله الأثير فهو «نقد العقل العربي» الصادر في أربعة أجزاء علي التوالي (تكوين العقل العربي 1984، بنية العقل العربي 1986، العقل السياسي العربي 1990، العقل الأخلاقي العربي 2001)، سبقها ما يشبه المانيفستو الذي يؤشر إلى طبيعة المشروع وأفقه وهو كتاب (نحن والتراث، 1980).
وفي الهزيع الأخير من حياته تجاوز التراث مقترباً من النص المؤسس ذاته «القرآن الكريم» في كتابيه «المدخل إلي القرآن الكريم»، و «فهم القرآن .. التفسير الواضح وفق ترتيب النزول» 2007م ـ 2009م. ولم يكن في ذلك نزوعاً سلفياً كما ذهب البعض بل توجهاً ارتقائياً لمشروعه النقدي في مسارات أكثر جذرية، بل إنني أدعي هنا بأن مقاربته للنص القرآني في كتابيه «المدخل إلى القرآن، وفهم القرآن» ربما كانا نقطة البداية المثلي لمشروعه استكشافاً للرؤية الوجودية المؤسسة للعقل العربي – الإسلامي، أي «الرؤية القرآنية للعالم» قبل أن يبدأ التراث عمله، وعصر التدوين في ممارسة نفوذه.
اختار الجابري لمشروعه الأساسي عنوان «نقد العقل العربي» وليس نقد أو تجديد الفكر العربي كما كان شائعاً قبله وخصوصاً لدى زكي نجيب محمود وعبدالله العروي، أو في موازاته خصوصاً لدى محمد أركون (نقد العقل الإسلامي) وحسن حنفي (التراث والتجديد) لأنه أراد أن يتعامل مباشرة مع آليات إنتاج الفكر العربي (المنهج) وليس نتاجات هذا الفكر (المحتوى)، ممارساً نقده للعقل نفسه من خلال تعرية أسسه ومكوناته التي أنتجت الثقافة العربية – الإسلامية، قبل أن تعود هذه المكونات نفسها لتتحدد بالثقافة التي أنتجتها خصوصاً في عصر التدوين الذي يحتل لديه الفترة الممتدة بين منتصف القرن الثاني الهجري، الثامن الميلادي (140هـ تحديداً) والقرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، والذي تم خلاله ترسيخ أركان وكليات العقل العربي حيث ساد الفقه الشافعي، وعلم الكلام الأشعري، والتصوف الغزالي، وهو العصر الذي استند إلي إطار مرجعي تمثل في عصرين سابقين عليه: أولهما العصر الجاهلي المتأخر وثانيهما عصر صدر الإسلام الذي ضم العهد النبوي والراشد مع الخلافة الأموية وحتى البدايات الأولى للعصر العباسي. والعقل العربي لديه هو «جملة من المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم، بهذه الدرجة أو تلك من القوة والصرامة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة، ومجال إنتاجها وإعادة إنتاجها» (تكوين: 37).
ولأن الجابري يستهدف المكون المعرفي في العقل العربي فقد استبعد من مجال رؤيته ونقده الجانب الإيديولوجي الذي يحتضن الآراء والمذاهب الخاصة (الأدبية) وكذلك الجانب الأسطوري (الميثولوجي) مركزاً اهتمامه ونقده على جانب «الثقافة العالمة» وحده حيث تنفك بنية العقل العربي المتضمنة لهذا الجانب «العالم» من الثقافة العربية إلي ثلاث أنظمة معرفية فرعية هي البيان والعرفان والبرهان، أولهما هو الأصيل في العقل العربي والآخران مضافان إليه بفعل ضرورات الاجتماع البشري والاحتكاك بالحضارات الأخرى، وتمدد الدولة / الحضارة الإسلامية نفسها في الأمم والحضارات الأخرى خصوصاً الكبرى منها كمصر وبابل وفارس.
أما النظام البياني فهو طريق أو منهج للمعرفة النقلية التي تجد مرجعها في أصل سابق بالضرورة أو في نص سواء كان القرآن الكريم أو السنة النبوية، أو في اللغة العربية نفسها ويشمل معارف من قبيل علوم اللغة كالنحو والبلاغة والأدب، وعلم أصول الفقه، فضلاً عن علم الكلام. ويبحث هذا النظام عن معقوليته بالأساس في النص القرآني: «… إذاً فالمعقولية في البيان العربي إنما تتحدد أولاً وقبل كل شيء داخل الكلام القرآني، وبالضبط في جدلية المعقول واللامعقول في خطابه» (تكوين: 136)، وبالذات عبر جدلية التوحيد والشرك، فالقول بالشرك هو نوع من اللاعقل يترتب عليه في فهم الكون والإنسان والمجتمع مفاهيم ورؤى لا عقلية، وأما العقل فيكمن في القول بالتوحيد وما يترتب على ذلك من مفاهيم ورؤى توحيدية للكون والتاريخ والإنسان.
وأما النظام العرفاني فهو طريق للمعرفه «الحدسية» أو «الكشفية» أو «العيانية» التي تتأسس على الإلهام أو التجربة الذوقية الخاصة بالمتصوفة والزهاد في سعيهم إلى إدراك الحقيقة الكلية إدراكاً باطنياً لا يتوافر إلا للخصوص من الناس الذين تصفو نفوسهم وترق إلى حد الاستنارة المباشرة بهذه الحقيقة من دون عمليات الاستدلال المنطقية والمرحلية والمتدرجة التي يتم اتباعها في مناهج المعرفة الأخرى اعتماداً على العق والحس أو كليهما معاً. وهذا النظام المعرفي «ليس أصيلاً في الثقافة العربية، فهو منقول إليها من الثقافات التي كانت سائدة قبل الإسلام (بنية، 251، 253).
وتبقى علوم البرهان وهنا لا بد من التمييز بين نوعين من الممارسة العلمية:
الأول هو الممارسة النظرية التي تقع بكاملها داخل المنظومة الأرسطية وتتحرك بتوجيه منها. فالرياضيات والطبيعيات كما مارسها الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد كانت مؤطرة، وإن بدرجات متفاوتة بالمنظومة الأرسطية ككل. ولما كانت هذه المنظومة قد اكتملت وانغلقت مع صاحبها وتحولت إلى نظرية عامة في الكون والإنسان والله، أي إلى منظومة ميتافيزيقية، فإنه لم يكن من الممكن للعلوم الموظفة داخلها أن تتقدم أو تتجدد إلا بتكسير تلك المنظومة. لقد فقد العلم الأرسطي استقلاله داخل هذه المنظومة وصار عنصراً فيها محكوماً بها، حددت له وظيفته إلى الأبد. وتكسير هذه المنظومة أو تجاوزها لم يكن من الممكن إلا بعد الاعتراف بها والعمل من داخلها وتحريك تناقضاتها كما حدث في أوروبا بعد القرن الثاني عشر… أما في الثقافة العربية فلم يكن قد تم الاعتراف بالمنظومة الأرسطية بنفس الصورة التي اعترف بها في أوروبا المسيحية لأن السلطة المرجعية الدينية في الثقافة العربية لم تكن في حاجة إليها، لا إلى منطقها ولا إلى علومها، كما كانت في حاجة إليها السلطة المرجعية المسيحية: الكنيسة. وأكثر من ذلك بل ولربما بسبب ذلك، فعندما نقلت علوم هذه المنظومة الى العربية لم تنقل لذاتها ولا من أجل إعادة بناء الفكر الديني الإسلامي، بل من أجل توظيفها، كلاً أو بعضاً، في محاربة العرفان (تكوين، 343 – 344).
وأما الثانية فهي الممارسة العلمية التجريبية التي كانت تتحرك، بهذه الدرجة أو تلك من الحرية، خارجها، ولذا كان ثمة ممارسة علمية حقاً، وفي كثير من الأحيان كانت على درجة كبيرة من النضج والتقدم كما كان الأمر لدى الخوارزمي في الجبر، والسموأل المغربي الذي تصور ومارس منهج «التحليل والتركيب» في الرياضيات بشكل ناضج جداً، وابن الهيثم الذي مارس هو الآخر الاستقراء العلمي و «الاعتبار» التجريبي بطريقة علمية تماماً هذا فضلاً عن نظرياته الخاصة في البصريات التي شغلت علماء الضوء في أوروبا لمدة طويلة، أضف الى ذلك الإنجازات العلمية في ميدان الفلك التي حققها البيروني والبتاني، والبطروجي وغيرهم (تكوين، 344).
وفي هذا السياق يذهب الجابري إلى أن العملية التفكيكية التي جرت وقائعها في المشرق العربي الإسلامي على حساب البرهان، قد رافقتها عملية موازية انتصرت له في المغرب العربي، قام بها ابن حزم محاولاً إعادة تعريف وتحديد مجال البيان، وصوغ العلاقة بينه وبين البرهان على أسس جديدة تستبعد العرفان استبعاداً تاماً، وتنزع مجال القياس الفقهي من البيان لتحد من نطاق تمدده وترجع بالقضية كلها إلى الثنائية الأوليى حيث العقل / الإنسان في مواجهة الطبيعة / الكون. فقد خلق الله العالم في أحسن صورة ودور العقل هو إدراك نظام العالم برعاية من النص المؤسس للشريعة أي القرآن الكريم والسنة النبوية، وهنا ينفتح ابن حزم على طبيعيات أرسطو ونظرياتها البرهانية في سياق تأسيس البيان على البرهان حتى أنه حاول توظيف المنج البرهاني لإثبات وجود الله وحقيقة النبوة. وما قام به ابن حزم على نحو شمولي وصل إلى ذروته على يد ثلاثة أحدهم فيلسوف والآخر فقيه والثالث بمفهومنا اليوم مفكر اجتماعي أو عالم اجتماع كبير، يجسد ثلاثتهم أعلى مراحل التقدم الفكري العربي، والتي لا يزال البناء عليها ممكناً:
أما الفيلسوف فهو ابن رشد الذي حقق هذا التقدم على صعيد فهم العلاقة بين الدين والفلسفة إذ نظر إليها على أساس أن لكل منهما بناء خاصاً له مقدماته الخاصة ومنهجه الخاص وإن كانا يلتقيان في الهدف العام وهو حض الناس على الفضيلة، وهذه النظرة تفصل تماماً بين الدين وغيره من منتجات العقل فلا تخضع هذه لذاك، ولا ذاك لهذه. أما الطريقة التي يقترحها في التعامل مع الخطاب الديني بوصفه بناء مستقلاً بنفسه فتقوم علي المبادئ الثلاث التالية:
المبدأ الأول: يؤكد أن الخطاب الديني هو دوماً على وفاق ما يقرره العقل، إما بدلالته الظاهرة أو بتأويل. والتأويل له حدود وشروط.
المبدأ الثاني هو أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ومعنى ذلك أنه إذا وجدت آية يخالف ظاهرها ما قام عليه البرهان العقلي فلا بد أن تكون هناك آية أخرى يشهد ظاهرها على المعنى الحقيقي المقصود بالآية الأولى، أي المعنى الموافق للعقل.
وأما المبدأ الثالث فهو يفصل في ما يؤول وما لا يؤول. وفي هذا الصدد يقرر ابن رشد أن الدين يقوم على أصول ثلاثة لا يجوز التأويل فيه قط وهي: الإقرار بوجود الله وبالنبوة وباليوم الآخر، أما ما عدا ذلك فقابل للتأويل، ولكن بشروط ثلاثة: الشرط الأول احترام خصائص الحقيقة (= الظاهر) إلى الدلالة المجازية (= الباطن) من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنة أو غير ذلك من الأِشياء التي عودت في تعريف أصناف الكلام المجازي. والشرط الثاني احترام الوحدة الداخلية للقول الديني فلا يجوز تضمينه أشياء غريبة عن مجاله التداولي الأصلي كما كان يتحدد زمن النبي، وبالتالي فلا مجال لإقحام التصورات الهرمسية أو نظريات الفلاسفة في الصرح الديني الإسلامي لأنها تخرج عن مجاله التداولي وتشوش وحدته الداخلية. والشرط الثالث: مراعاة المستوى المعرفي لمن يوجه إليه التأويل.