يجمع “سكورسيزي” بين بطله المفضل منذ فيلم “سائق سيارة الأجرة” (Taxi Driver) “روبرت دي نيرو” عام 1976، وبطل أفلامه الستة الأخيرة “ليوناردو دي كابريو”، والممثلة التي ولدت نجمة “ليلي غلادستون”. والفيلم مقتبس من كتاب للكاتب “ديفيد غران”، ويحمل عنوانا فرعيا إلى جانب العنوان الأصلي هو “جرائم أوساج ومولد مكتب التحقيقات الفيدرالي”، وقد كتب له “سكورسيزي” السيناريو مع “إريك روث”. ويقوم موضوع الفيلم على أحداث حقيقية.
عنوان الفيلم “قمر الزهور” هو تعبير كان يستخدمه السكان الأصليون في أمريكا تعبيرا عن ظاهرة القمر المكتمل في شهر مايو، حينما تنتشر الأزهار في ربوع الأرض. والتعبير في عنوان الفيلم مجازي بالطبع.
هذا عمل آخر ملحمي كبير يسير فيه “سكورسيزي” على نهج كثير من أفلامه التي كان يسعى فيها للكشف عن الجانب الآخر من تاريخ أمريكا، كيف ولدت وأصبحت دولة، من خلال القتل والعنف وسفك الدماء والتوسع والسيطرة ونمو النهم الرأسمالي والاحتكارات، بحيث أصبحت السلطة تعني المال، والمال يعني السيطرة، مع التخلي عن كل القيم وتبرير القتل من أجل مزيد من الاستحواذ.
لا أتفق مع اعتبار الفيلم من نوع “الويسترن” أي أفلام الغرب الأمريكي. صحيح أن لدينا هنا ما يسمى بـ”الهنود الحمر” (أو السكان الأصليين) والبيض الأمريكيين، ومواكب واستعراضات ركوب الجياد، كما أن هناك مشاهد لإطلاق الرصاص والقتل، وقتل البيض للسكان الأصليين، ولكنه ليس فيلم مغامرات بحثا عن الذهب، ومطاردات ومبارزات بالمسدسات.. إلخ. بل هو فيلم عن الصراع من أجل الهيمنة وتراكم الثروة، لذا يمكن اعتباره أكثر قربا من فيلم مثل “ستسيل الدماء” (There Will Be Blood) أكثر من أفلام “الويسترن”.
“مارتن سكورسيزي”.. إيطالي أمريكي يفرغ مزاجه في السينما
كان المخرج “مارتن سكورسيزي” دائما مهتما بالشخصية المأزومة، تلك التي تعاني من العجز عن الاتساق أو الاندماج مع محيطها، وقد يدفعها شعورها الحاد بالاغتراب إلى الجريمة والعنف. ومعظم شخصيات أفلامه لا تختار مصائرها تماما، بل تبدو مدفوعة بقوى قدرية، وهي شخصيات مركبة، تعبر أفضل ما يمكن عن مزاج “سكورسيزي” نفسه، باعتباره إيطاليا أمريكيا من نيويورك، فلا يكف منذ أول أفلامه عن توجيه سهام النقد للثقافة الأمريكية السائدة، وللمجتمع الأمريكي عموما.
وكما هو شأن معظم أفلام “سكورسيزي”، تدور أحداث فيلمه الجديد “قتلة زهرة القمر” في الماضي، وحول شخصيات إجرامية تمارس العنف والقتل من أجل الاستحواذ، لذا يمكن اعتباره أقرب إلى أفلام “سكورسيزي” المماثلة مثل “عصابات نيويورك” (Gangs of New York) الذي أخرجه عام 2002، وفيلم “الرفاق الصالحون” (GoodFellas) الذي أخرجه عام 1990.
الفرق أن بطله الأصغر سنا، لا يعاني كثيرا، فهو لا يتمتع بالضمير أو بالحس الأخلاقي الذي يعذبه، بل إن غلبة الجشع على الحب لا تؤرقه ولا تجعله يتمزق أو يعاني ليصبح أحد أبطال سكورسيزي “المأزومين”، فليست لديه أزمة، وهذه هي المفارقة الدرامية الخطيرة التي تجعل شخصية “إرنست بوكهارت” التي يقوم بها في الفيلم “ليوناردو دي كابريو”، شخصية جديدة على سينما سكورسيزي.
ظهور النفط.. قانون عنصري يجعل الأوساج غير أكفاء
فيلم “قتلة قمر الزهور” فيلم من أفلام الجريمة والتحقيق البوليسي، لكنه يدور في سياق تاريخي يستند إلى حقائق ووقائع ذات صبغة درامية مثيرة، ولا يرمي لتحقيق المتعة للمشاهدين، فهو يروي فترة سوداء في التاريخ الأمريكي، ذات صلة بإبادة السكان الأصليين، كما تجسد دراميا التبرير القانوني للمذابح والتصفيات العرقية، من أجل الاستيلاء على الأرض بما في جوفها من كنوز، أي من أجل إشباع غريزة الجشع المتأصلة التي دفعت الرجل الأبيض للاستيطان في الأراضي الأمريكية الشاسعة.
نحن في أوائل العشرينيات من القرن العشرين، في منطقة من ولاية أوكلاهوما الجنوبية، وهي منطقة تقطنها قبيلة أوساج من السكان الأصليين. وقد انحصروا في تلك المنطقة الصغيرة بعد التآمر عليهم ودفعهم خارج أراضيهم الشاسعة التي سكنوها وأقاموا عليها آلاف السنين قبل وصول الرجل الأبيض. وانتهى الأمر إلى استقرارهم داخل محمية خاصة بموجب اتفاق مع الحكومة الأمريكية.
يفتتح “سكورسيزي” الفيلم بمشهد مصمم على غرار الجريدة السينمائية الصامتة، يستعرض خلالها تاريخ قبيلة أوساج إلى حين استقرارهم في تلك المنطقة، ثم كيف أدى اكتشاف النفط فيها إلى أن أصبحت من أكثر مناطق الولايات المتحدة ثراء.
ومع تدفق الأموال والإنفاق السريع لها، صدر عن الكونغرس الأمريكي تشريع ذو صبغة عنصرية، يعتبر كثيرا من أفراد القبيلة غير أكفاء، أي لا يمكنهم التحكم في أموالهم بأنفسهم، وبالتالي فهو يُسند أمر صرف أي أموال لهم إلى رجال المصارف وغيرهم، مقابل الحصول على نسبة لأنفسهم، مع إرغامهم على شراء وثائق تأمين على الحياة بأسعار مرتفعة كثيرا، مقابل إقراضهم المال.
بنات القبيلة.. خطة الزواج والاغتيال داخل المنزل
وكان المال قد بدأ يتدفق بوفرة بسبب استثمارات النفط في أراضي القبيلة، وسرعان ما ظهرت مظاهر النعمة والثراء عليهم، فاشتروا المنازل الكبيرة الجميلة والملابس الثمينة والمجوهرات، واستأجروا السيارات الفاخرة التي كانت قد بدأت في الظهور على استحياء في تلك الفترة. وأصبحت أرض القبيلة مصدر طمع الرجل الأبيض. فما العمل إذن؟
يضع كبير سكان المنطقة “وليام هيل” -الذي يطلق على نفسه لقب “الملك”- خطة تتلخص في تزويج الشباب البيض من فتيات القبيلة، ثم التخلص منهن تدريجيا بالتصفية والقتل، حتى تعود ملكية الأرض إلى الزوج، ويمكن بالتالي المحافظة على الملكية بحيث لا تخرج من أيديهم. وهو يطرح هذه الخطة باعتبارها قانونية تماما وحقا من حقوق الأمريكيين البيض. وفي الوقت نفسه، يقدم نفسه باعتباره صديقا لجماعة القبيلة، التي تجله وتحترمه، فهو الذي بنى لهم المدارس والمستشفى وغير ذلك، كما يقول.
انتشرت فكرة الزواج المختلط، وتزوج عشرات الشباب البيض بفتيات الأوسان، وأنجبوا منهن أطفالا، واستمرت المؤامرات للاستحواذ على الأرض، وانتشرت جرائم قتل الزوجات وأقاربهن في ظروف غامضة متعددة مختلفة، لكن الأمر لا يخلو من قصص حب حقيقية تصبح حجر عثرة في طريق الخطة، وهو ما يقتضي التعامل مع الطرفين في هذه الحالة، أي تصفية امرأة القبيلة ورجل الجماعة البيضاء معا.
إننا بصدد جريمة منظمة يشارك فيها عشرات الرجال، مع السيطرة على رجال الشرطة وشراء صمتهم، وجعلهم جزءا من الخطة نفسها أيضا. وأمكن بالتالي أن تمر سلسلة الجرائم التي راح ضحيتها العشرات من الأوساج في أوقات متقاربة كثيرا، ثم مرت من دون أي تحقيق.
“الملك”.. قائد جماعة البيض ومدبر الاغتيالات
يروي فيلم “قتلة زهرة القمر” قصة تدور أساسا حول ثلاثة أشخاص، الأول هو “وليم هايل” أو “الملك” (الممثل روبرت دي نيرو)، ويقود جماعة الأمريكيين البيض في تلك المنطقة، وهو الرأسمالي صاحب النفوذ الذي يمتلك الضيعة والأبقار والقوة والمال والنفوذ، ويسيطر على الشرطة والبلدية، ويخطط لجرائم القتل والتصفية والاستيلاء القانوني على الأرض، يخضع له الجميع ويخشونه وينفذون أوامره. فهو مثل “الأب الروحي” للجميع، كما أنه قريب من نموذج زعيم العصابة البارد الأعصاب الذي يحتوي الجميع من حوله كأنهم أبناؤه.
الثاني هو “إرنست بوركهارت” (الممثل ليوناردو دي كابريو)، وهو ابن أخي “الملك” العائد إلى البلدة بعد أن خدم في صفوف الجيش الأمريكي بالحرب العالمية الأولى في أوروبا، وهدفه الوحيد الآن هو الحصول على أي عمل، فهو مجرد من المواهب، محدود الطموح، لكنه يفصح من البداية عن حبه للمال والخمر.
يلحقه عمه بالعمل سائقا لسيارة أجرة من سيارات شركته، ثم يحمل في سيارته فتاة حسناء من الأوساج هي “مولي” (الممثلة ليلي غلادستون)، فتعجب بوسامته وتطلق عليه “الكايوت” (أي الذئب بلغة القبيلة)، وتقول لأختها إن “الكايوت يريد المال”، لكنها رغم ذلك تقع في حبه، كما يقع هو في حبها. ويشجعه عمه على الزواج منها ويشرح له آلية نقل الأرض والممتلكات الخاصة بعائلتها إليهم، ثم يتزوج الاثنان في مشهد بديع، فيقيم الأوساج احتفالا مليئا بالأغاني والموسيقى والرقص من ثقافتهم وتراثهم الموشك على الدمار.
يوظف “الملك” ابن أخيه “إرنست” وسيطا في عمليات التصفية والقتل التي تشمل أخوات “مولي” الثلاث وأمها، ثم تشيع الفوضى في البلدة، وتقع أعمال حرق بيوت وإطلاق رصاص، وتصفية وترويع وقتل بطرق مختلفة يجيد المخرج “سكورسيزي” تصويرها بحكم خبرته في أفلام الجريمة.
ينجب “إرنست” أربعة أبناء من زوجته الجميلة التي سلمت قيادها له تماما، فهي لا تشك أبدا في سلوكه، لكن طمعه وجشعه وبلادة حسه، تطغى على حبه لها، فعندما يصيبها السكري يأتي لها “الملك” بدواء ظهر حديثا هو “الأنسولين”، ثم يخلطه بمادة سامة بمساعدة الأطباء، ويطلب من “إرنست” أن يحقنها به يوميا (لكي يبقيها هادئة)، فقد بدأت تتشكك فيما يجري من جرائم خصوصا مع عمليات التصفية التي تنال من أخواتها وأمها.
“مولي”.. شكوى في البيت الأبيض تفتح باب التحقيق
تدريجيا تتدهور صحة “مولي”، ولكنها تتحامل على نفسها وتذهب إلى واشنطن، فتشكو للرئيس الأمريكي أمام البيت الأبيض تلك الحملة التي تهدف إلى إبادة أبناء قبيلتها من السكان الأصليين، فيأمر الرئيس بالتحقيق في سلسلة جرائم القتل في تلك المنطقة.
وهنا يدخل إلى الفيلم فريق مكتب التحقيقات الفيدرالي “أف بي آي” (FBI) الذي كان في بداياته الأولى في تلك الفترة، بقيادة المحقق “توم وايت” (الممثل جيس بليمونز) الذي يبرز دوره في الفيلم في الساعة الأخيرة، ثم تبدأ التحقيقات والتعقب والإيقاع واللجوء للحيلة والدهاء من جانب “وايت” لتضييق الخناق تدريجيا حول “كنغ” وعصابته ومن بينهم بالطبع “إرنست”.
لعل أكثر ما يثير التساؤل في هذه الحبكة الدرامية، تلك العلاقة الغريبة الغامضة بين “إرنست” و”مولي”، فالحب يجمع بينهما، كما يبدو “إرنست” أبا صالحا محبا لأبنائه، لكنه رغم ذلك لا يبالي بعواقب أفعاله، صحيح أنه يبدو أحيانا متألما لما يضطر إليه تحت ضغوط عمه وسيطرته المطلقة عليه، كما يمكن أن يبدو على وشك التمرد عليه، لكنه يعود ليستسلم ويرضخ، فهو معدوم الإرادة ضعيف الشخصية، يفتقد للذكاء وروح الاستقلالية. لذلك يواصل حقن زوجته بالمادة السامة لكي ينهي حياتها تدريجيا.
أما “مولي” فهي تحبه وتستمر في حبها له، حتى بعد أن تحيط به الشبهات، ثم يقبض عليه ويساق للمحاكمة، بعد أن يجد المحقق ما يثبت ضلوعه في مقتل أخوات “مولي”. هذا الحب الأقرب إلى الإيمان المطلق، تشوبه مسحة من الغموض في الفيلم، فالأمر يطول كثيرا إلى أن تدرك “مولي” الحقيقة، بعد أن يثبت الأطباء وجود السم في حقن الأنسولين التي كان يحقنها بها. فهل يمكن أن يحسم “إرنست” الجبان المتردد العاجز أمره في النهاية، ويشهد ضد عمه وعصابته؟
عظمة الكتابة والتصوير والمونتاج.. فيلم يعانق الكمال
إننا أمام عمل يروي فصلا مرعبا من فصول نشأة أمريكا الرأسمالية، يرويها “سكورسيزي” من خلال لغة سينمائية رفيعة ترقى إلى أبلغ ما وصل إليه فن السينما، فالسيناريو يستبعد ما لا يراه مهما، ويركز على التفاصيل التي تخدم الموضوع.
وأما التصوير فهو يعبّر بأفضل ما يكون عن البيئة الطبيعية بتلك المنطقة في عشرينيات القرن العشرين، وقد قام به مدير التصوير الكبير “رودريغو بريتو الذي تعاون مع “سكورسيزي” من قبل في أفلامه الثلاثة الأخيرة، وأظهر قدرته على التصوير الدقيق لطبيعة المكان والفترة، وأما صنّاع الديكور فقد أعادوا تصميم الأماكن والشوارع والمنازل، بحيث تضاهي تماما ما كان قائما.
وكان استخدام المخرج لمجموعات الممثلين الثانويين مبهرا، ومنهم أكثر من 40 شخصية من السكان الأصليين شاركوا في الفيلم في أدوار ثانوية ورئيسية ناطقة، مع عشرات آخرين في أدوار الكومبارس، وقد أظهر قدرة هائلة على السيطرة في عدد من أضخم المشاهد الخارجية في تاريخ السينما، وفي محاكاة أفلام العصر الصامت من خلال الصورة والصبغة اللونية والمونتاج، وكان المونتاج الدقيق أيضا لا يترك أي تفصيلة زائدة داخل المشهد، وقد قامت به كالعادة مونتيرة أفلام “سكورسيزي” المرموقة “ثيلما سكونماكر”.
يسير الفيلم في إيقاع ملحمي متدفق ينتقل بين الداخل والخارج، فلا يفقد أبدا إيقاعه حتى في مشاهد المحاكمة في الجزء الأخير، رغم أن العمل يستغرق ثلاث ساعات و26 دقيقة، فهو يستولي عليك وكأن له تأثيرا منوما يسرق المشاهدين ويسيطر عليهم. إنه عمل شجاع كاشف يتمتع بأسلوب سينمائي بليغ، يفيض بالشعر، رغم ما يتضمنه من مشاهد عنيفة.
ينتقل “سكورسيزي” من الأبيض والأسود إلى الألوان، ومن مشاهد الطبيعة الخلابة في تلك المنطقة من أوكلاهوما، إلى مشاهد الداخل ذات الألوان القاتمة (البني والأصفر والرمادي)، ومن المشاهد الحميمية بين إرنست و”مولي”، إلى المشاهد الضخمة التي تضم آلاف الممثلين الثانويين.
خطاب المخرج.. حقبة حالكة السواد في التاريخ الأمريكي
كما هي عادة سكورسيزي في أفلامه، فهذا الفيلم فيلم شخصيات أكثر مما هو فيلم حبكة، يوظف مخرجه أسلوب الإثارة البوليسية ليس من أجل الإثارة، بل للكشف عن منهجية العنف والتصفية المدفوعة بالجشع والرغبة في الاستحواذ على المال.
وهي فترة يشعر “سكورسيزي” بأنها حالكة السواد في التاريخ الأمريكي الحديث، لذلك فهو يظهر بنفسه في المشهد الأخير من الفيلم، لكي يلقي كلمة تندد بما جرى وتدعو إلى مواجهة الحقائق، والتعلم من دروس التاريخ، وعدم تكرار ما حدث في الماضي، والتحذير مما يحدث في أمريكا اليوم مع صعود اليمين الشعبوي العنصري، وهي المرة الأولى التي يصنع فيها هذا الأمر في أفلامه.
يستخدم “سكورسيزي” التعليق الصوتي من خارج الصورة، كما في كثير من أفلامه، تارة من وجهة نظر المحقق الذي يروي تفاصيل القصة، وتارة أخرى بصوت “مولي” التي تروي وتعلق على الجزء الأخير. وهي وسيلة تضفي على الفيلم طابعا وثائقيا يتيح مساحة بين المتفرج وما يشاهده، بحيث يقلل من درجة الاندماج مع الأحداث ويترك أمامه مساحة للتأمل.
هناك صور ومشاهد حية نابضة بالحياة لتقاليد ومظاهر حياة أفراد قبيلة أوساج واحتفالاتهم وأعيادهم ونظرتهم الدينية الخاصة، واهتمام كبير بإبراز ملابسهم المزركشة الملونة البديعة. وقد تحدث “سكورسيزي” وغيره من الذين شاركوا في الفيلم من القبيلة عن المساهمة الكبيرة من جانبهم في اختيار الملابس، وإضافة كثير من التفاصيل التي لم يكن لها وجود في السيناريو الأصلي للفيلم.
أبطال الفيلم.. شيطان ودود وجشع تائه وملاك طاهر
ولا شك أن من أكثر ما يرفع من مستوى الفيلم وقدرته على الإقناع، أداء الممثلين خصوصا في الأدوار الثلاثة الرئيسية، وأولهم “روبرت دي نيرو” الذي يتماهى تماهيا إعجازيا في دور “الملك”، يرتعش صوته وهو يتحدث عن الاستحواذ، يتمتع بشخصية كاريزمية مؤثرة، يحبه الأوساج، يمكنه أيضا أن يخاطبهم بلغتهم، إلا أنه يخفي وراء ذلك القناع السميك من الود، شراسة الجشع والشر. وهو يردد ذات مرة: “أنا أحبهم، لكن عندما تدور الأرض، سوف يختفون”.
لن نتعرف لأول وهلة على الممثل، فهو يذوب في الشخصية، بنغمة صوته ولهجته الحادة وساقه العرجاء قليلا، ووجهه النحيف الذي يأكله الجشع. هذا أداء مادي وصوتي، يعتمد على نظرات العينين وحركات الجسد واليدين، في تناغم كامل مع الدور.
وهناك أيضا “ليوناردو دي كابريو” في دور “إرنست”، وهو من أكثر الأدوار قبحا في تاريخه الشخصي، شخصية الباحث عن المال الذي يقع في الحب دون أن يثنيه الحب قط عن السقوط، وكلما حاول التراجع يشده الجشع ويفقده إنسانيته، لا يتورع عن دفع زوجته التي يعرف أنها تحبه إلى الموت، فقد تغلغل الجشع في نفسه، ونجح إغواء الشيطان في قتل روحه.
وفي قلب الفيلم هناك شخصية “مولي” التي تؤديها “ليلي غلادستون” بكل براعة وجمال وسحر، شخصية شديدة الجاذبية، تتمتع بقوة الشخصية من البداية، راسخة وواثقة، تتألم لمصير أسرتها، تحاول أن تمنع المستقبل القاتم عندما تصر -رغم محنتها المرضية- على الذهاب إلى البيت الأبيض.
هي المرأة التي تقع في الحب، وتصبح الزوجة المحبة التي ترعى أبناءها مع رجل تعرف أنه ضعيف الشخصية، بل ربما يكون ضالعا أو متآمرا، وهي تأمن له وتبعد الشك عن نفسها، لكنها تبدو من خلال نظرات عينيها كأنها تدرك ما يجري، تريده أن يستيقظ وأن يشعر بالذنب، إلى أن تستفيق في النهاية. “غلادستون” هي جوهرة الفيلم وروحه النقية، وهي أيضا الشخصية النسائية الإيجابية الأولى في أفلام “سكورسيزي”.