في محاولة لشرح نظريته الأشهر وتناول ما استُجدّ عليها، نشر الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما تسجيلًا صوتيًا (بودكاست)، نشره حساب مركز تطوُّر الديمقراطية وحكم القانون التابع لجامعة «ستانفورد»، والذي يديره فوكوياما. ويحاول في هذا التسجيل التطرق للتحديات التي تواجه نظرية «نهاية العالم»، وتحديد ما إذا كانت تنطبق على واقعنا اليوم. وفيما يلي ترجمة لحديثه:
هناك سؤالٌ لطالما سألني إيّاه الناس منذ عام 1989، ألا وهو: ماذا حدث لنهاية التاريخ؟ ألم تَبطُل نظريَّتك عندما حدث الأمر الفلاني؟ ويقصدون عادة الأحداث التي تظهر في الأخبار وعلى التلفزيون؛ الأحداث السياسية الدولية الكبرى. من يسأل هذا السؤال عادة هم أشخاصٌ لم يستوعبوا المفهوم الأصلي لـ«نهاية التاريخ»، ولم يقرؤوا كتابي «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» المنشور عام 1992. لذا، هدفي من هذا التسجيل الصوتي هو تفسير هذه النظرية، وشرح ما كنت أقصده، وما تغير في تفكيري منذ حينها. بالطبع، من الغريب أن مسار التاريخ خلال 30 عامًا تقريبًا لم يؤدِّ للتطور الذي كنت أظن أنه سيحدث وقتها. لكن، من المهم أن نفرِّق بين النقد العقلاني والنقد السخيف أو المبني على مفاهيم خاطئة.
أبدأ بالحديث عن عنوان مقالي الأصلي «نهاية التاريخ؟ – ?The end of History»، الذي نشر في مجلة ناشونال إنترست، في صيف عام 1989. كلمة «التاريخ – History» التي ذكرتها تبدأ بحرف «كابيتال»، وأقصد بها ما قد يسمِّيه الناس اليوم التطور أو الحداثة. والجملة «نهاية التاريخ؟» كان المعني بها الغاية منه لا نهايته؛ ما هي غاية عملية التقدم أو الحداثة؟
لم يكن تعبير «نهاية التاريخ» من اختراعي، فقد استخدمه للمرة الأولى الفيلسوف الألماني العظيم جورج فيلهلم فريدريك هيجل. كان هيجل أول فيلسوف تاريخاني، أي أنه يعتقد باستحالة فهم التاريخ أو المؤسسات البشرية دون فهم تطورها على مر التاريخ. اتبع كارل ماركس نفس طريقة تفكيره، وقدم نسخته من «نهاية التاريخ»، والتي ربما تكون النسخة الأشهر من النظرية. كان طرح ماركس أن المجتمعات البشرية تنمو وتتقدم من مجتمعات بدائية غير مفيدة إلى أن تصبح مجتمعات برجوازية، وكانت نهاية التاريخ في رأيه هي اليوتوبيا الشيوعية، كان هذا ما يأمله ماركس ويتنبأ به.
أما الطرح البسيط الذي قدمته فكان أن نهاية التاريخ التي توقعها ماركس لم تبدُ محتملة في عام 1989، لم نكن لنحظى أبدًا بهذه اليوتوبيا الشيوعية. وكان ميخائيل جورباتشوف يقود الاتحاد السوفيتي لقبول المبادئ الأساسية للديمقراطية الليبرالية عن طريق حركتي «بيريسترويكا» و«جلاسنوست». لذا، فإن نهاية التاريخ – إن تحققت – لم تكن لتغدو شيوعية، بل مزيجًا من الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق.
ظهرت فكرة نهاية التاريخ مجددًا في الثلاثينيات والأربعينيات على يد أليكساندر كوجيف، وهو فيلسوف روسي فرنسي، تزعَّم مؤتمرًا فكريًا قد يعدُّ من أهم المؤتمرات في القرن العشرين. أقيم المؤتمر في باريس وشهد حضور مناراتٍ فكرية عديدة من فترة ما بعد الحرب مثل: ريمون كينو، وجورج باطاي، وموريس مورلي بونتيه، وجاك لاكان، وريمون آرون، وإريك فويجلن. كان كوجيف يقول إنّ مضمون نهاية التاريخ التي كتب عنها هيجل صحيح، بل وأكَّد أن التاريخ انتهى في 1806، إبان معركة «يينا» التي هزم فيها نابليون المملكة البروسية. وما يسترعي الانتباه أن هذا التأكيد أتى في الليلة التي سبقت بداية الحرب العالمية الثانية، بعد بداية عنيفة للقرن العشرين شهدت الحرب العالمية الأولى، وموت الملايين من البشر، والثورة البلشفية، وبوادر الثورة الصينية، وتحرير أغلب دول العالم الثالث – كما تسمَّى الآن – من الاستعمار.
كان كلامه يبدو منافيًا للعقل في ظاهره، لكن عندما يُصدِر مفكر لامع مثل كوجيف تصريحًا غير معقول فعلينا أن نفكر فيما وراء الظاهر من كلامه. كان كوجيف يتهكَّم، ليشير بطريقةٍ ما إلى حقيقةٍ مهمَّة؛ هي أن العالم لم يتقدَّم بشكلٍ حقيقيّ منذ وضع مبادئ الثورة الفرنسية أو النظام السياسي الذي بُني على المبدئين المترابطين «الحرية والمساواة»، وهما مبدآ السياسة الحديثة، وأن كل الاضطرابات التي حدثت في القرن العشرين عامَّة أو في الولايات المتحدة منذ 1806، كانت في حقيقتها عملية انتقال هذه المبادئ من المناطق الأكثر تحضُّرًا للمناطق الأخرى من العالم.
ما كتبت عنه في مقالي المنشور عام 1989 لم يكن أمرًا جديدًا تمامًا، وربما كان كوجيف وهيجل محقَّين. ربما تكون المبادئ الأساسية للمجتمعات الحديثة قد وضعت منذ مائتي عام، وما نراه الآن هو مجرَّد تطبيق لهذه المبادئ في دولٍ مختلفة في أنحاء العالم. وربما كانت الإصلاحات التي تحدُث وقتها في الاتحاد السوفيتي والصين تعني أننا لن نصل أبدًا للاشتراكية، ولن نصل لهذا المستوى العالي من المجتمعات الإنسانية، وأن ما شهدناه وقتها هو أقصى ما يمكننا الحصول عليه. كان هذا أساس فكرتي.
كانت جماعة النقّاد الماركسيين إحدى جماعات النقد التي لم تخطئ فهم مضمون طرحي أبدًا. كان الناس يعون ما قلته حول نهاية التاريخ في اللقاءات التي تعقد في كوبا والاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية الأخرى، وفهموا أن هذا هو التحدي الأساسي الذي يواجه معتقداتهم حول مسار التاريخ. كنت أعمل محللًا سياسيًّا في مؤسسة راند عندما كتبت مقالي في شتاء 1988/ 1989، وكنت أدرس السياسات الداخلية للاتحاد السوفيتي. كان جورباتشوف قد ألقى وقتها خطابًا قال فيه: «إن جوهر الشيوعية هو المنافسة». بعدما سمعت هذه الجملة، استدعيت أحد أصدقائي الذين يفهمون هيجل وقال لي: «إن كان هذا ما يقوله جورباتشوف، فنحن قطعًا في نهاية التاريخ».
أما المصدر الأصلي لمقالي، فكان مجموعة محاضرات نظّمها معلمي السابق آلان بلوم في ذلك الشتاء، من خلال لجنة الفكر الاشتراكي في جامعة شيكاجو. كان المنظور العام لهذه السلسلة هو «انحدار الغرب»، وطلب مني أن ألقي محاضرة فيها، وأجبت بأنني أملك محاضرة مناسبة، إلا أن موضوعها هو «انتصار الغرب» لا انحداره. ألقيت محاضرتي، وبعدها ببضعة أشهر زارني أوين هاريس؛ رئيس تحرير مجلة جديدة تدعى «ناشونال إنترست». كان يعرض عليّ أفكارًا لمقالات، فأخبرته عن هذه المحاضرة ووافق على نشرها. أما باقي القصة فمعروف سلفًا.
لم يكن الطرح الذي تضمّنه مقالي يعني أن الديمقراطية أصبحت – فجأة – السمة الأساسية للعالم أو أنها ستنتشر في كل مكان بالضرورة، كما لم أقصد أن الأحداث السياسية ستتوقف بأي شكل. ما كنت أقوله هو أنه لا يبدو أن هناك أي بدائل أسمى يمكن أن يتطور العالم في اتجاهها. ونظرية التاريخ التي طرحتها في كتابي «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» كانت نسخة ضعيفة من نظرية الحداثة، مثلما كنت أسميها في ذلك الوقت. أما النسخة القوية من هذه النظرية فكانت هي النموذج المسيطر على مجتمع العلوم الاجتماعية في الخمسينيات والستينيات، وكانت تقول بأن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للحداثة هي جميعها ضمن نفس عملية التطور، وأنها تدعم بعضها البعض؛ فكلما صارت المجتمعات أغنى أصبحت أكثر انفتاحًا وأكثر ديمقراطية.
لم يعد الدفاع عن وجهة النظر هذه ممكنًا بسبب نقد كتبه صامويل هنتنجتون في كتابه «النظام السياسي لمجتمعات متغيرة» المنشور في عام 1967، ويقول هنتنجتون إن الجوانب السياسية والاقتصادية للحداثة غالبًا ما تتعارض. فإن كان هناك نموذجان اجتماعيان سريعا النمو بحيث يفوقان معدَّل التطور السياسي، فإن النتيجة لن تكون مجتمعًا ديمقراطيًا سعيدًا، بل سينعدم الاستقرار. في السنين اللاحقة، ركز هنتنجتون على قضيَّة أخرى هي الثقافة، وقال إن المجتمعات لن تتقارب بمرور الوقت بل ستبقى عالقة في أفقها الثقافي الموجود من قبل.
يعد محرك الحداثة الذي تحدثت عنه في كتابي نسخة ضعيفة من هذه النظرية، فقد تركت مجالًا للصدفة والمسؤولية البشرية، لم يكن هناك ما هو حتمي أو محدد مسبقًا. رغم ذلك، قلت بأن الحداثة هي عملية متكاملة، ولم يختلف شكلها كثيرًا عند تطبيقها على ثقافات مختلفة. يعود السبب في هذا إلى التكنولوجيا، أو ما أسميه بـ«الآلية». على مر التاريخ، رسمت الأشكال السائدة من التكنولوجيا حدود احتمالات الإنتاج. وكان للمنظمات الاقتصادية المسيطرة وقتها تأثير كبير على المنظمات الاجتماعية، وشكلت في النهاية طبيعة السياسة أيضًا.
على سبيل المثال، كتبت تكنولوجيا الفحم والصلب والصناعات الكبيرة نهاية النظام الزراعي الموجود، وجلبت التمدن ومستويات أعلى من التعليم. وعلى النقيض، أنهت المراحل الأولى من الثورة المعلوماتية احتكار مؤسسات هرمية – مثل الدولة – للمعلومات، وجعلت الاحتكار الأفقي ممكنًا أكثر. بمعنى آخر، كانت مناسبة أكثر لعملية الدمقرطة. تخلق المستويات المرتفعة للدخل طبقة وسطى، وتصبح هذه الطبقة مهتمة بالمشاركة في الشأن السياسي إن استمرت الأمور كما هي. هذا ما يفسر الارتباط – القوي نسبيًا – بين أن تكون الدولة غنية وأن تكون ديمقراطية. كان صعود دول شرق آسيا أوضح مثال على النمو الاقتصادي الذي يؤدي للتحول الاجتماعي، حيث انتشرت الصناعة في المنطقة من اليابان إلى كوريا إلى تايوان وحتى الصين. وفي كل حالة، أدى التحول الاجتماعي الذي جلبته هذه العملية إلى التقارب مع الدول الغربية التي مرت بنفس الأمر في أجيالٍ سابقة. وشهدت هذه الدول تحولًا كبيرًا في الكتلة السكانية من الريف إلى المدن، واستثمارات أكبر في تطوير التعليم والمهارات، ونمو طبقة متوسطة متمدنة وطبقة عمالية معقدة، تعتمد كل منهما على الأخرى.
حدث تقارب سياسي أيضًا في كلٍّ من اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. تحوَّلت كل دولة للديمقراطية الليبرالية بمرور الوقت، وكانت كوريا وتايوان قد تحوَّلتا بمجرد انتقالهما من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية متمدنة في الثمانينيات. لكن هذا لم يكن نمطًا عامًا، فمعدَّل الدخل في سنغافورة أعلى من الولايات المتحدة، لكنها تحتفظ بنظامٍ انتخابي ليبراليّ سلطوي، ووصلت الصين الآن لمعدلات دخل تقارب نفس المعدلات في كوريا وتايوان في الثمانينيات، إلا أنها سارت في الاتجاه المعاكس تحت قيادة شي جين بينج لتصبح ديكتاتورية أكثر قمعًا.
رسمت الصورة التي قدمتها عام 1992 بناء على عدد من المعطيات، لكني استوعب حاليًا أجزاء عدة كانت مفقودة من هذه الصورة، أكثر مما كنت أستوعب وقتها، ولا أقصد هنا الاستثناء الصيني الذي سأتناوله لاحقًا. في البدء، كان عليّ السؤال: كيف يبدأ النمو الاقتصادي أصلًا؟ فصعود السلم يتلوه بالضرورة تبعات سياسية واقتصادية، لكن الفقر يسيطر على أنحاء عدة من العالم، دون وجود أمل حقيقي في أن تتبع هذه الدول المسارات التنموية لكوريا واليابان والصين. ويرجع سبب أن هذا النمو لم ينتشر أكثر عالميًا لغياب المؤسسات، وتحديدًا غياب الدولة الحديثة. ركزت نظريتي السابقة على الديمقراطية، ولم تسلط الضوء بما يكفي على أهمية وجود دولة مؤسساتية قبلها، لتحافظ على النظام الاجتماعي وتوفر الخدمات العامة الأساسية.
الطريق إلى هذه الدولة الحديثة – أو كما أسميته لاحقًا «الطريق إلى الدنمارك» – هو مهمة من البناء السياسي أصعب بكثير من الوصول للديمقراطية الانتخابية. أكثر من 100 دولة قد تصنف اليوم على أنها ديمقراطية انتخابية، بما في ذلك دول مثل العراق وأفغانستان، لكن على الأغلب، يمكن لبضع عشرات فقط من هذه الدول أن توصف بأنها دولة حديثة فعلًا. كان سبب نجاح دول شرق آسيا في النمو الاقتصادي بهذا الشكل خلال الجيلين السابقين، هو أنها بنت دولًا حديثة قبل مواجهتها مع الغرب، ولم تحتج لإنشاء المؤسسات التي ذكرناها سابقًا خلال عملية التطور. أما في أجزاء أخرى من العالم مثل جنوب الصحراء الأفريقية – حيث لم تنشأ الدول الحديثة فيما قبل الاستعمار – فكان الطريق نحو النمو الاقتصادي أصعب كثيرًا لعدم وجود الإطار المؤسسي المطلوب لتحقيق النمو.
وهو ما يثير تساؤلًا حول منشأ الدولة الحديثة، كنت قد تجاهلته تمامًا في كتابي. حاولت أن أتدارك الأمر في سلسلةٍ من كتابين بعنوان «النظام السياسي»، وتستقصي نشأة الدول في المجتمعات القبلية، ثم تحولها من دول قديمة إلى دول حديثة. وإن كان هناك آلية ما لهذا الأمر، فستكون المنافسة العسكرية. فالدول أقوى من المجتمعات القبلية، والدول الحديثة أقوى من دول الفرد الواحد. ولذا فإن سعي المجتمعات المستمر للإحساس بالأمان يقودها إلى اعتبار الكفاءة والحكم المؤسساتي أساس مبادئها التنظيمية. ارتبطت هذه الفرضية التي تقول بأن: «الدولة تصنع الحرب، والحرب تصنع الدولة» بعالم الاجتماع تشارلز تيلي، ولا يعد هذا شرطًًا ضروريًا ولا كافيًا لشرح وجود الدولة في أي بلد. يحتاج الأمر للأخذ باعتبارات أخرى مثل البيئة والجغرافيا والمعتقدات الدينية وما إلى ذلك. كل هذا يجعل النظرية أكثر تعقيدًا، وأكثر فوضوية.
ترتبط المشكلة الثانية فيما نشرته عام 1992 بهشاشة الدولة الحديثة بشكل كبير. فكما يمكن للدول الحديثة أن تنمو بعد أن كانت أقل تطورًا، يمكن أن تضمحل أيضًا؛ أي أن الأنظمة السياسية الحديثة يمكن أن تنتكس لتصبح أقل حداثة. إن المشكلة الأساسية للدولة الحديثة هي أنها غير طبيعية تمامًا. بنيت الدولة الحديثة علىالكفاءة وإلغاء شخصنة السلطة، أي أنه لا يجب أن تختار مسؤولا من أقاربك أو أصدقائك لانتخابه. لكن اجتماعية البشر تعمل بشكل مختلف وتميل لاختيار الأصدقاء والأقارب، فأصبح هناك دافع مستمر لعودة الشخصنة في الحكم، وهو ما يسمى بالفساد السياسي أيضًا. ويكون الدافع أقوى عند النخبة السياسية، التي تسعى إلى تحويل سلطتها وثروتها إلى مزايا خاصة باستيلائها على الحكم. وسميت هذه العملية «دولة الفرد الواحد الجديدة- re-patrimonialization» في كتب «النظام السياسي».
وظهرت في كل نظام سياسي حاول إنشاء دولة حديثة، فقد حدثت في نهاية حكم سلالة هان في الصين، وفي نهاية «النظام العسكري الاستعبادي» في الدولة العثمانية، وكذلك في النظام الفرنسي القديم، الذي بدأ تقليد تولِّي المناصب بالرشوة. يشبه هذا ما يحدث في الولايات المتحدة اليوم، إذ تستغل مجموعة من الطبقة العليا نظام «الرقابة والتوازن» لتعطيل السياسات التي تتعارض مع مصالحها، ما يؤدي لشلل سياسي تام.
أما المشكلة الثالثة في نظرية «نهاية التاريخ»، فترتبط جزئيًّا بمشكلة التآكل السياسي. إذ إن هناك قناعة منتشرة في العديد من الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة بأن النخب الموجودة طوّعت النظام لمصالحها، وهو ما رسَّخ أن النظام السياسي غير كاف للتخلص منهم. يؤدي الركود السياسي الناتج عن هذا الأمر إلى المطالبة بزعيم قوي يستطيع مواجهة الطبقة العليا، حتى إن كان هذا يعني تجاهل الإطار المؤسسي الذي تقوم عليه الديمقراطية الليبرالية. ارتبط الركود السياسي بالضغوط الاقتصادية التي تعاني منها الطبقتان القديمتان: المتوسطة والعاملة. اللتان نالتا استقرارًا وظيفيًا في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، واللتان شهدتا أيضًا تراجعًا في أجورهم وأوضاعهم الاجتماعية في العقود الأخيرة. أدى هذا لبزوغ حركة شعبوية جديدة تعادي المؤسسات في العالم الديمقراطي، مثل فيكتور أوربان ويوريسلاف كاتشنسكي في المجر وبولندا، وماري لوبين في فرنسا، ومؤيدي «بركسيت» في بريطانيا، وبالطبع، دونالد ترامب في الولايات المتحدة.
رابع مشكلة في فرضية عام 1992، هي مشكلة أشار إليها هنتنجتون في كتابه «صراع الحضارات». ويقول هنتنجتون بأنّ الليبرالية الديمقراطية هي من منتجات الثقافة الغربية، وأنها ليست جزءًا حتميًّا من عملية الحداثة العالمية. ولهذا، كانت الصين أكبر التحديات لسردية «نهاية التاريخ».
من بين كل الدول غير الليبرالية وغير الديمقراطية التي مثّلت تحديًا للطرح، كنت أعتبر الصين التحدي الأكبر من البداية. يشار أحيانًا للإسلام السياسي على أنه منافس آخر لها، لكنِّي أيقنت مؤخرًا أن المجتمعات التي تحكمها الثيوقراطية الإسلامية لن تصل أبدًا لمستوى الحداثة التكنولوجية والاقتصادية اللازمة لتبقى مجتمعاتٍ ناجحة، والدليل أن كلّ هذه المجتمعات لم تقترب من تحقيق ذلك حتى الآن. فالأماكن الوحيدة الناجحة اقتصاديًا في الشرق الأوسط هي دول صغيرة مثل الإمارات (دبي) وقطر، واللتان اتبعتا أنظمة سياسية ليبرالية، حتى وإن كانت تظل أوتوقراطية.
وتعاني إيران – التي قادت المنطقة نحو الأصولية الإسلامية – من غليانٍ داخليّ بسبب تطلُّع الأجيال الشابة المتعلِّمة لمجتمعٍ أكثر انفتاحًا وديمقراطي بشكل حقيقي. أما الصين فمختلفة، فهي الأوتوقراطية غير الليبرالية التي نجحت في الحفاظ على معدلات عالية للنمو، والتي تثبت قدرتها على استخدام عدد كبير من التكنولوجيات اللازمة للحفاظ على النمو في المستقبل. ولوهلة، كانت هناك شكوك حول قدرة مجتمع كهذا على الابتكار بدلًا من استنساخ الاقتصادات العالمية الكبرى ومحاولة اللحاق بها، لكنّ الصين تفوقت على خصومها في الغرب في مجالاتٍ عدة، ويرجع ذلك لقطاعها التقني الكبير والمتمدد. السؤال إذًا: ما مدى استمرارية نموذج الدولة الصينية؟
لا يمكن الحكم على أي مجتمع بأدائه على المدى القصير، وهناك أسباب تدعو للاعتقاد بأن الصين ستواجه تحدياتٍ كبيرة خلال العقود القادمة. حافظت الصين على المعدّلات المرتفعة للنمو بتحقيق معدلات مرتفعة جدًا من الاستدانة، وفي دولة تمتلك معدلات ادخار مرتفعة، لا يمكن الحفاظ على وضع صافي الدين كما هو. يعتمد نموذج النمو في الصين على الاستثمار في البنية التحتية بشكلٍ كبير، وهو ما سيقل حتى يتوقف تمامًا، وتظل إمكانية تصديره عن طريق مبادرة «حزام واحد وطريق واحد» محل شك.
كما قدَّمت الصين – لفترة طويلة – النمو الاقتصادي على أهداف أخرى مثل حماية البيئة، حتى سمَّمت بيئتها. تحاول الحكومة تعديل الأمر، ولا يُعرف إن كانت ستستطيع حلّ المشكلة والحفاظ على هذا النمو في نفس الوقت أم لا. أخيرًا، تعتمد شرعية الحزب الشيوعي الصيني بشكلٍ كبير على أدائه. لم تشهد البلاد أي ركودٍ اقتصادي كبير منذ عام 1978، لكن الانتكاسات الاقتصادية حتمية في ظل تحولها لدولة ذات دخل مرتفع. ماذا سيكون شعور الطبقة المتوسطة تجاه استمرار الحزب في الحكم بعد فترة طويلة من التراجع الاقتصادي؟ أما إذا استمرت الصين على هذا النمو خلال السنوات القادمة، واستمرت في كونها أكبر قوة اقتصادية في العالم، فسأعلن وقتها أن نظريتي بطلت تمامًا.
تتعلق المشكلة الخامسة بالتكنولوجيا، وهي في الحقيقة مجموعة من المشاكل التي تخلقها تقنيات مختلفة، سواء كانت مشاكل موجودة بالفعل أو ما زالت تلوح في الأفق. وبالنظر إلى تكوين النظرية التي طرحتها عام 1992، والدور الذي لعبه التغير التكنولوجي فيها، فإنه من الصعب أن نتوقع حلول نهاية التاريخ دون أن تحل نهاية التطور التكنولوجي. أشرت لهذا في كتاب «مستقبلنا بعد البشري» المنشور عام 2001، والذي قلت فيه بأن احتماليات التلاعب في سلوك البشر تزيد بشكل كبير، نتيجةً للتطور في علوم الحياة. استنتجت في النظرية التي تناولت فيها استدامة الديمقراطية الليبرالية أنها متوافقة مع الطبيعة البشرية، لكن لا يسري هذا إن كان من الممكن تغيير هذه الطبيعة عمدًا، عن طريق الهندسة الوراثية أو المخدرات التي تؤثر على العقل.
إن أشكال الهندسة الاجتماعية التي تميزت بها الأنظمة القمعية في القرن العشرين، تعد شديدة البساطة إذا ما قورنت بما يمكن عمله اليوم بواسطة التكنولوجيا الحيوية. ليست هذه المشكلة التكنولوجية الوحيدة التي تواجهها الأنظمة السياسية المعاصرة. تهدد أسلحة الدمار الشامل – بما فيها الأسلحة الحيوية – بتهميش العلاقة بين التنمية الاجتماعية والقوة العسكرية، ما أكسب الجماعات الإرهابية الصغيرة والدول الضعيفة ميزة عن خصومها الأكثر تطورًا. بشكل ما، تعيد هذه الأسلحة العالم إلى وضع استمر عليه لعدة قرون، عندما هزم الفرسان البدو (الأوروآسيويون) المجتمعات الزراعية الأكثر تقدمًا، وهو الوضع الذي استمر حتى اختراع البارود.
كما تلام التقنية بشكل كبير على تراجع الوظائف في الدول المتقدمة، ومن المتوقع أن تؤثر على مستويات المهارة التي وصلت ذروتها، لتزيد من انعدام المساواة، فتخلق بعض المصاعب للدول التي تتبنى مبدأ المساواة. وأخيرًا، فإن كان هناك حدود قصوى للنمو يفرضها الاحتباس الحراري أو قلة المصادر، أو توقف التغيير الذي يزيد من الإنتاج، فهذا يعني أن الديمقراطيات الليبرالية ستواجه تحديات خاصة. ينتج عن اقتصاد السوق تمايزات اقتصادية يمكن التغاضي عنها سياسيًا، فقط طالما كان من المعروف أن الجميع مستفيدون بشكل ما. وإن كان هناك نهاية للنمو، فربما نعود لعالم ما قبل الحداثة الذي يستهلك فقط بقدر ما ينتج، والذي بشر به مالتوس، حينها يكون الاختيار الأسهل للأغنياء هو افتراس الثروة بدلًا من خلقها. تبقى كل هذه التطورات التكنولوجية محتملة وليست أكيدة، وقد نفاجأ بالطرق التي تخدم بها التغيرات التكنولوجية التطور الإنساني، لكن لا يوجد نهاية لهذه العملية.
تبقى مسألة أخيرة، تتعلق بالسؤال حول الهوية. لم يلحظ العديد من نقاد «نهاية التاريخ؟» علامة الاستفهام في نهاية عنوان المقال المنشور عام 1989، كما لم يقرؤوا الفصل الأخير من كتاب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير». يشير الجزء الأخير من عنوان الكتاب «الإنسان الأخير» إلى طرح نيتشه «رجال بلا دواخل – Men Without Chests»، وهو وضع كان يرى أنه سيبزغ في نهاية التاريخ، ويتحوّل فيه البشر لمستهلكين راضين لا يملكون طموحات ولا يعتزون بأنفسهم.
كانت أهمية الـ«ثيموس» بصفته محركًا للتاريخ البشري ضمن الموضوعات الرئيسية في كتابي؛ وكلمة ثيموس هي كلمة إغريقية استخدمها سقراط (أو السقراطيون) في «الجمهورية»، وتترجم في الإنجليزية «الحيوية – Spiritedness». وتشير للجزء الذي يجعل الإنسان يبحث عن التقدير، وعن كرامته الداخلية. ولفد تحدَّثت عن نوعين من الثيموس: الأيزوثيميا (isothymia)؛ أي أن تجد التقدير في مساواتك مع باقي البشر، والميجالوثيميا (megalothymia)، وهي أن تجد التقدير في التفوق على الآخرين.
يرى هيجل أنّ العملية التاريخية في مجملها كان يحركها الكفاح من أجل الكرامة، وأن بزوغ نهاية التاريخ يأتي انتصارًا لمبدأ التقدير الشامل والمتساوي. أقرت الليبرالية الديمقراطية بالكرامة المتساوية لكل مواطنيها بأن ضمنت لهم حقهم في التعبير والتجمع والمشاركة السياسية، أي بمعاملتهم كالبالغين الذين يتمتعون بمسؤولية بشرية تامة.
كما أوضحت عام 1992، مشكلة هذا «التقدير الشامل» تكمن في أنه عامل جذب قوي لمن يعيشون في دول ديكتاتورية. وكانوا يثقون في تحققه بمجرد انتقالهم للديمقراطية، فبحثت الشعوب على اختلافها عن التقدير الجزئي بأشكاله. هذا هو مصدر القومية والإسلام السياسي، وكذلك المفاهيم السياسية حول الهوية، والتي سيطرت على الجامعات الأمريكية، وهو وضع كان قائمًا بالفعل عام 1992.
بنيت السياسة الحديثة على سلسلة من صراعات الفئات المهمشة من أجل التقدير. لا يريد الأفراد أن يعرّفوا على أنهم بشر فقط، بل على أنهم مجريين أو كتالونيين أو مسلمين أو مثليين أو نساء أو أفارقة من أصل أمريكي، إلى آخره. كما أن الديمقراطية الليبرالية ما زالت جديدة في احتواء الميجالوثيميا الجريئة، وهي الرغبة في الشعور بالتقدير عند الأفراد الطموحين بشكل كبير. كان الدفاع عن الجمهورية الديمقراطية ضد القيصريين (الأوتوقراطيين) من أهم ما شغل الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، كما كان أحد أسباب نظام «الرقابة والتوازن» المعقد الذي نعمل به الآن. لم أجزم بأن الديمقراطية الليبرالية قد حلت مشكلة التقدير (ثيموس) عام 1989، ولا بأن القومية أو الدين قد يختفي أي منهما في أي وقت قريب.
بعد تطور العالم وصولًا إلى نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، صارت الهوية هي النمط الذي يجمع العديد من الحركات الشعبوية القومية التي تصاعدت في العالم، ولا ينطبق هذا فقط على الديمقراطيات الحديثة مثل المجر وبولندا، بل أيضًا على الديمقراطيات الأقدم منها مثل فرنسا والولايات المتحدة. يعد الإسلام السياسي في الشرق الأوسط أحد أشكال البحث عن الهوية، الذي كان محرك القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر.
إن احتمال أن تتسبب مسائل الهوية في الصراع وانعدام الاستقرار داخل الدول الديمقراطية وفيما بينها، يعد احتمالًا حقيقيًا ومقلقًا. ذكرت عددًا من الأسباب التي ترجح أن عملية الحداثة لن تكون لعنة على الديمقراطية الليبرالية. يمكن أن تبقى الدول فقيرة أو غير مستقرة، أو أن تعلق في حكم أوتوقراطي أو ديمقراطية ليبرالية، أو تتراجع لمراحل متأخرة من التطور. قد تبدو هذه نظرة تشاؤمية مقارنة بتفاؤل مقالي عام 1989. لكنه أمر حتمي، وفقًا لآخر ما استجد من التيارات السياسية العالمية، والتي تسير في اتجاه مختلف عما كانت تتجه له عام 1992، عندما كانت الموجة الديمقراطية الثالثة – التي طرحها هنتنجتون – تدخل ذروتها. لكن هذا لا ينفي أن من السهل أن تأخذك الحماسة وتبني رأيك على اتجاهات تدوم لفترات قصيرة لتجعل منها أوضاعًا دائمة.
إن تأملنا حال العالم في مجمله، سنجد لوحة استثنائية. شهدت الأجيال الثلاثة السابقة تقدمًا بشريًا كبيرًا، خاصة تلك التي تلت كتابة «نهاية التاريخ». كانت نتيجة العولمة ونشأة نظام ليبرالي عالمي بعد 1945، هي أن تضاعف ناتج الاقتصاد العالمي أكثر من 4 مرات، وانتُشل مئات الملايين من البشر من الفقر المدقع. ينطبق هذا على الصين، وجنوب الصحراء الأفريقية، وجنوب آسيا، وأمريكا اللاتينية. لم يتحسن دخلهم فقط، بل تحسنت – بشكل كبير – مؤشرات أخرى تدل على الحياة الجيدة، منها معدل وفيات الأطفال وإتاحة التعيلم ووضع النساء والفتيات. نشأت الطبقات الوسطى الجديدة في العديد من الدول، وانتشرت الديمقراطيات بدرجة كبيرة، حتى رغم الانتكاسات الأخيرة.
قد يكون المؤشر الأقوى على أن التاريخ يسير في اتجاه تقدُّمي واضح، هو حقيقة أن الملايين من البشر في الدول الفوضوية أو القمعية أو الفقيرة يحاولون الانتقال مع عائلاتهم إلى بلدان وصلت «نهاية التاريخ»، أي إلى مناطق غنية ومستقرة وديمقراطية، لتوفر لهم فرص الازدهار الفردي، وبالكاد يوجد من ينتقل في الاتجاه الآخر طوعيًا. لن يسعى الفقراء أو المقموعون للسفر إلى الصين رغم كل غناها ونجاحها، حتى وإن سمحت لهم الصين. وتسبب هذا التحرك في أزمة لبعض الديمقراطيات المستقرة التي شهدت غضبًا تجاه اللاجئين والمهاجرين. لكن هناك ما سأقوله لكل من لا يعتقد أن للتاريخ اتجاهًا، أو أن اتجاهه غير معروف: تظل حقيقة أن الناس قد يدلون بأصواتهم حتى ولو بأقدامهم أمرًا يحتاج للتفسير.