فاز اليمين القومي المتطرف بقيادة جورجيا ميلوني وضمن ائتلاف يميني أوسع في الانتخابات التشريعية التي شهدتها إيطاليا. ويكون بهذا أول حزب متطرف من هذا النوع سيقود الحكومة في دولة تم تصنيفها دائما بالأوروبية. وهذا الحدث يشكل مناسبة للكثير من الأقلام لممارسة سياسة الإثارة تحت عنوان “نهاية العالم”، أو “عودة موسوليني”، في حين أن الأوضاع لم تتغير إلا قليلا، وستنعكس سلبا على إيطاليا في المقام الأول، كما حدث مع الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب قبل أ تنعكس على الخارج.
وكان فوز اليمين القومي المتطرف منتظرا في إيطاليا، كما أن فوزه منتظرا في دول أوروبية أخرى مثل فرنسا بعدما بلغت المرشحة ماري لوبين مرتين الجولة الثانية للتنافس على رئاسة البلاد في مواجهة إيمانويل ماكرون سنتي 2017 و2022. وشكل المتطرفون تحالفات مع اليمين التقليدي في دول مثل بلجيكا وهولندا والسويد والنمسا. بل ووصلت ممارسات اليمين القومي المتطرف في صيغة مختلفة الى رئاسة الحكومة في بريطانيا، لم يتم عبر الانتخابات أو عبر حزب متطرف مباشر بل من خلال تعويض بوريس جونسون كرئيس الحكومة خلفا لتيريزا ماي وتولي ليزا تراس مكانه خلال الشهر الماضي. وإذا تم إخضاع برامج حزب المحافظين للتمحيص والدراسة مع كل من جونسون وليزا، سيتبين أنه ينهل من عقيدة التطرف المعادية للوحدة الأوروبية، ويكفي التأمل في “البريكسيت” (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، ثم الخطاب والسياسة المطبقة في مجال الهجرة. سقط المحافظون في التطرف لأنهم أعطوا مفاتيح الحزب لشخصيات متطرفة.
فوز اليمين المتطرف في إيطاليا ليس الأول ولن يكون الأخير في الاتحاد الأوروبي. فهو يعكس عنوان انهيار النخب التقليدية التي حكمت لعقود أوروبا بين يمين محافظ واشتراكي معتدل. وبدل الاستمرار في خدمة ناخبيها، سقطت في آخر المطاف تحت سطوة أموال الشركات المتعددة الجنسيات، ويعد الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون عنوانا لهذا الانزياح السياسي غير الأخلاقي بعدما أظهرت وثائق نشرتها الصحافة مثل لوموند كيف سهّل بطريقة غير شفافة اقتحام شركات مثل اوبر فرنسا.
وكلما فاز اليمين المتطرف في أوروبا أو الشعبوي في الولايات المتحدة، وكما حدث مع الرئيس دونالد ترامب سنة 2016، ترتفع الأصوات محذّرة وكأنها “نهاية العالم” حلت. فوز اليمين القومي المتطرف لن يغير سوى “القليل والنسبي” من الوضع السياسي في الغرب. قد يكون هناك تشدد في البدء في ملفات مثل الهجرة والرؤية الى التحالفات الدولية، لكن لاحقا سيفرض الواقع نفسه. وستكون الدول التي فاز فيها اليمين المتطرف أو اليسار الراديكالي هي المتضررة الأولى، نتيجة انتشار الاستقطاب القوي وسط المجتمع، وتشهد اضطرابات. وتعد الولايات المتحدة نموذجا للاستقطاب الحاد الذي وقع إبان رئاسة دونالد ترامب لاسيما بعد مقتل جورج فلويد خلال مايو 2020 في ولاية مينيسوتا على يد الشرطة.
ولا يمكن انتظار تغيير ملحوظ بعد فوز اليمين القومي المتطرف لأسباب متعددة، أبرزها: وعي اليمين المتطرف مثل اليسار الراديكالي بقواعد اللعبة الديمقراطية في الغرب، أي يتحركون في إطار جرى الاتفاق عليه منذ عقود طويلة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية؛ وهذا الإطار لم ينكسر بعد بل يستمر وإن كان يفقد قوته نتيجة تلقيه ضربات بسبب الأزمات الكبرى. كما أن صناديق الاقتراع لم تصوت لهم بالأغلبية، فقد حصل حزب “إخوان إيطاليا” بزعامة ميلوني على 26% فقط من الأصوات، وهي ليس أصوات قارة في كل الانتخابات.
من جانب آخر، إدراك قادة اليمين القومي المتطرف أن الفوز في الانتخابات لا يعني توظيف مؤسسات الدولة مثل مصلحة الضرائب للتستر على تهريب الأموال والشرطة والاستخبارات لتعزيز نفوذ الحزب الحاكم وملاحقة المعارضين من خلال ملفات معدة سلفا بتهم الخيانة أو الاعتداءات الجنسية. وثالثا وهو الأهم، يدركون كل الإدراك بوجود الدولة العميقة التي تسمى “الإستبلشمنت”، المكونة من الأجهزة التي لا تتأثر بلون الحزب السياسي الفائز في الانتخابات مثل، الجيش والشرطة والاستخبارات ونسبيا الدبلوماسية ومصلحة الضرائب. هذه الدولة التي تحافظ على الهيكل العام للبلاد من الانزياح والميل نحو هذا الطرف أو ذاك.
ومن ضمن الأمثلة على فرض الدولة العميقة اختياراتها في أوقات الأزمة، نقتصر على أربعة أمثلة ، الأولى، عندما ساءت الأمور في إيطاليا، إبان الجائحة، نصبت هذه الدولة ماريو دراغي رئيسا للحكومة الوطنية، ولم يأت عبر صناديق الاقتراع. وعندما كاد الرئيس الجمهوري السابق ترامب أن يسبب في مواجهات أهلية بسبب قراراته، انتصب الجيش ضده ورفض أوامره وساهم في خسارته الانتخابات. عندما تفشى الفساد المالي في إسبانيا، وامتنعت الحكومات التقليدية عن محاربته بسبب تورط عدد من أفرادها الكبار، انتصبت الدولة العميقة التي بدأت في فتح ملفات، وكانت النتيجة التحقيق مع الملك خوان كارلوس وعدد من الوزراء السابقين ورؤساء حكومات الحكم الذاتي بعضهم دخل الى السجن. في الوقت ذاته، ورغم تشدد رئيسة الحكومة الجديدة في بريطانيا ليزا تراس على مواجهة الهجرة، فهي تهيئ لأكبر برنامج لاستقطاب المهاجرين بمئات الآلاف نظرا للخصاص الكبير لأن الاقتصاد يفرض ذلك.
رئاسة اليمين القومي المتطرف بزعامة جورجيا ميلوني لحكومة الائتلاف اليميني ليس نهاية العالم، هو حلقة من ممارسة السلطة بين أقصى اليمين الى أقصى اليسار مرورا بالوسط في ملعب تم الاتفاق عليه.
عندما تصل أحزاب راديكالية الى السلطة في الغرب، سواء كانت يمينية أو يسارية، يقوم الواقع بترويضها وتصبح أكثر عقلانية، وإذا تجاوزت الإطار الديمقراطي المتفق عليه منذ عقود، تجد الدولة العميقة “الأستبلشمنت” في مواجهتها سدا لأن “مصلحة الأمة والوطن فوق الجميع”. نعم، إنها الدولة العميقة تجسد دولة المؤسسات التي تكون في خدمة الأمة والوطن، وإن تطلب الأمر مناورة القانون في اللحظات العصيبة، وليست في خدمة الشخص. لهذا، الدول التي لا تتوفر إشتبلشمنت قوي، له أهداف سامية تخدم الأمة قبل الحاكم، تفقد البوصلة وتصبح مثل تيتانيك تائهة في البحر عند غياب أو سقوط الحاكم.