ترسم روسيا سياستها الخارجية للعقود المقبلة بشكل ذكي ويقوم جزء كبير منها على محاصرة النفوذ الأمريكي بنوع من “جيوبوليتيك البرغماتي” الذي يجمع بين النفوذ العسكري والاقتصادي. وتكشف نماذج معنية كيفية تطبيق الرئيس فلادمير بوتين هذه الاستراتيجية حاليا في مواجهة مفتوحة دبلوماسيا وعسكريا عبر أطراف ثالثة في ملفات مثل سوريا وأوكرانيا، وفي الوقت ذاته في ملفات استراتيجية منها أمريكا اللاتينية ومعابر دولية قد سيكون لها بالغ الأثر على مصالح التجارة الدولية مستقبلا.
وتحولت نزاعات مثل سوريا وأوكرانيا الى حالات كلاسيكية بامتياز لمعرفة ما وصفه خبراء فرنسيون، وفق جريدة لوموند مؤخرا “فن حرب بوتين ضد الغرب وأساس الولايات المتحدة”، وهي القائمة على فرض واقع جديد يقترب من استنزاف الدبلوماسية مع حضور الحل العسكري دون اللجوء الى الحرب مباشرة.
وتطبق روسيا بقيادة فلادمير بوتين هذه السياسة باحترافية كبيرة، فهي أصبحت دعامة أساسية لنظام بشار الأسد في سوريا تمنع سقوطه عبر أدوات مثل إيران وحزب الله وعتاد روسي. وتفرض واقعا مرا على الغرب في أوكرانيا بعدما أخذت مساحات هامة واستراتيجية مثل جزيرة القرم ليكون لها منفذ على البحر المتوسط. وتضغط بقوة على دول البلطيق لتدفعها نحو الاعتدال والحياد بدل التحول الى قواعد متقدمة للغرب في مواجهة موسكو.
واعترفت المجلة الألمانية الشهيرة دير شبيغل هذا الأسبوع بعجز الحلف الأطلسي الدفاع عن دول البلطيق أمام الدب العسكري الروسي في حالة نشوب حرب. وعمليا، بدأت دول البلطيق تأخذ مسافة من مخططات واشنطن وعياب منها بعدم تردد موسكو في الإقدام على مغامرة حربية.
وتعتبر سوريا وأوكرانيا من العناوين البارزة للمواجهة التي ليست بالضرورة حرب باردة جديدة كما يسميها الكثير من الخبراء، ذلك أن الحرب الباردة اعتمدت الإديولوجيا، معسكرا شيوعيا في مواجهة آخر ليبرالي، أما الآن فيتعلق الأمر بحرب النفوذ والتموقع العسكري والتجاري والمواد الأولية والتحالف مع دول بغض النظر عن توجهاتها السياسية.
ومن ضمن الفضاءات التي تركز عليها روسيا مؤخرا وتقدم عينة لكيفية رسم هذه الاستراتيجية، أمريكا اللاتينية. فقد صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف نية موسكو التوفر على محطات تقنية عسكرية في ساحلي أمريكا اللاتينية، الأطلسي والهندي لأن روسيا ستساهم في حفظ الأمن عالميا وهذا يتطلب وجود أسطولها في نقاط مختلفة من العالم ومنها أمريكا اللاتينية.
عميد دبلوماسية روسيا استعمل محطات عسكرية تقنية لتفادي مفهوم القواعد العسكرية الذي يثير جدلا سياسيا ويترتب عنه حساسية في منطقة ترغب في الاستقلال بنفسها عن أقطاب العالم. وتوجد عدد من الدول مرشحة لتقديم هذا الدعم التقني العسكري لروسيا على رأسها فنزويلا والإكوادور ونيكاراغوا علاوة على كوبا التي توفر هذا الدعم تاريخيا.
وتبقى المفارقة الصارخة هو أنه في الوقت الذي تعمل روسيا على تعزيز حضورها العسكري تحت صيغ مختلفة في أمريكا اللاتينية، تطالب دول المنطقة الولايات المتحدة بعدم التواجد العسكري، وآخرها ما قامت به الإكوادور من طرد لعشرات الضباط الأمريكيين الذين كانوا ملحقين بالسفارة الأمريكية. وتوجد دولة واحدة فقط هي التي توفر للولايات المتحدة دعما عسكريا وهي كولومبيا التي تحمل اسم “إسرائيل أمريكا اللاتينية”. وبهذا، تصبح روسيا قريبة عسكريا من حدود الولايات المتحدة، ويأخذ هذا الحضور رمزية كبيرة لأنه يحصل ما بعد الحرب الباردة.
في الوقت ذاته، تتوجه أغلبية دول أمريكا اللاتينية الى اقتناء العتاد العسكري والتخلي تدريجيا عن العتاد الأمريكي، وهو عنوان للتحول في الثقافة العسكرية في المنطقة يحمل تبعات سياسية سلبية لواشنطن.
وعادت الولايات المتحدة منذ سنتين بالعمل بالأسطول الرابع المخصص لأمريكا اللاتينية، لكن هذه المرة لا تجد حتى محطات تقنية لبوارجها الحربية دون الحديث عن استحالة العثور على قواعد عسكرية. وهذا المعطى الذي يحدث في منطقة جرى وصفها تاريخيا ب “الحديقة الخلفية للولايات المتحدة”، يعتبر مفارقة عسكرية في التموقع العسكري بين واشنطن وموسكو في أمريكا اللاتينية.
وفي المنطقة نفسها، تساهم موسكو في القناة التي تعتزم الصين تشييدها في نيكاراغوا للربط بين المحيطين الهادي والأطلسي لتصبح بديلا لقناة بنما التي مازالت تحت الهيمنة العسكرية الأمريكية بشكل أو آخر رغم تسليم السيادة النظرية لدولة بنما منذ سنوات. وعالج لافروف هذا الموضوع مع رئيس نيكاراغوا دانييل أورتيغا هذه الأيام. وتؤكد التحاليل الاستراتيجية وقوف موسكو منذ البدء وراء هذا المشروع وإن كانت قد التزمت دورا ثانويا ووراء الستار، فهي تساهم في الدراسات الهندسية وتساهم في التمويل وعيا منها بأهمية المشروع استراتيجيا.
ويحمل المشروع أهمية قصوى استراتيجيا سواء من الناحية العسكرية أو الاقتصادية. فمن جهة، سيسمح للبوارج العسكرية الروسية مستقبلا بالتنقل بين ضفتي المحيط الهادي والأطلسي للقارة الأمريكية بسهولة مطلقة أمام صعوبة القيام بذلك حاليا بسبب الشروط التي تفرضها قناة بنما. وسهولة ومرونة حركة التجارة البحرية في وقت تتراجع فيه الولايات المتحدة اقتصاديا وتتقدم روسيا والصين.
ومشروع قناة نيكاراغوا يأخذ أهميته الحقيقية على ضوء قرار روسيا فتح طريق بحري للتجارة العالمية يربط جنوب شرق وشرق آسيا بالغرب عبر المحيط المتمجد بالقرب من القطب الشمالي. وبدأت سفن الشحن الدولي تمر تدريجيا من هذه الطريق بعدما تزودت روسيا بكاسحات الجليد تعمل بالطاقة النووية وقادرة على الإبقاء على الطريق طيلة شهور السنة باستثناء شهر أو شهرين، ولكن ابتداء من 2020 ستكون الطريق مفتوحة طيلة شهور السنة، حيث ستمر السفن على شكل قافلة تفتح لها كاسحة للجليد
وهذه الطريق البحرية التي ستساعد سفن الشحن الدولي على ربح أكثر من خمسة آلاف كلم وستعوض طريق قناة سويس ستمنح روسيا موقعا هاما في مراقبة التجارة الدولية، وسيكون لها وقع قناة السويس في القرن التاسع عشر على الملاحة والتجارة الدولية لاسيما وأنها تربط منطقة المستقبل وهي الهادي بالأطلسي.
وكان الاتحاد السوفياتي قد فشل في الماضي في نشر نفوذه عالميا والمحافظة عليه بسبب الرهان على ما هو عسكري وإديولوجي، لكن الرئيس الروسي الحالي فلادمير بوتين أصبح برغماتيا على النمط الأمريكي برهانه على النفوذ العسكري والاقتصادي لضمان تموقع جديد لروسيا عالميا بعدما وعى الزواج الكاثوليكي بين التجارة والقوة العسكرية.