شارك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاثنين الماضي في قمة الساحل بموريتانيا، وهي مشاركة في قمة ثانوية للغاية لاسيما في ظروف الجائحة الحالية. لكنها تأتي في محاولة للبروز دوليا بعد الفشل الذريع في مواجهة المد التركي في ليبيا الذي ضرب نصف الدائرة الجيوسياسية التي رغبت باريس في تنفيذها، أي منطقة نفوذ من موريتانيا الأطلسية حتى شواطئ ليبيا وبعمق أفريقي في الساحل.
وعمليا، يعد الصراع التركي-الفرنسي خلال سنة 2020 والذي تجلت ذروته في الحادث العسكري يوم 10 حزيران/يونيو الماضي عندما وضعت فرقاطة تركية أخرى فرنسية في مرمى الرادار، العملية التي تسبق إطلاق النار، المنعطف الجيوسياسي الذي شهده البحر الأبيض خلال جائحة كورونا فيروس وسيمتد إلى سنوات، وما هو إلا نتاج صراع طويل بين البلدين لا يقتصر فقط على ليبيا بل يعود إلى ملفات تاريخية.
ولا يمكن فهم التوتر الحالي بين فرنسا وتركيا في الملف الليبي من دون العودة إلى الوراء على الأقل إلى بداية العقد الماضي، للوقوف على حدثين هامين يطبعان العلاقات الثنائية ويحكمان عليها بالتوتر الأبدي لاسيما في ظل أجندة تركيا بتحقيق مكانة رئيسية في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، وهما:
في المقام الأول، اعتراف فرنسا يوم 29 كانون الثاني/يناير 2001 بما وقع للأرمن سنة 1915 في ظل الإمبراطورية العثمانية بجرائم ضد الإنسانية، وكان هذا أول اعتراف من دولة غربية كبيرة بهذه المأساة التاريخية. وحاولت تركيا إقناع فرنسا بأن الأمر تعلق بحرب أهلية ذهب ضحيتها 300 ألف أرميني ونسبة من الجنود العثمانيين. لم تستوعب تركيا وقتها كيف لدولة ذات ماضي استعماري مثل فرنسا تدين الآخرين ولا تعترف بجرائمها الاستعمارية.
وفي المقام الثاني، عندما وجه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يوم 27 آب/اغسطس 2007 خطابا إلى السفراء الفرنسيين المعتمدين في العالم معترضا على المفاوضات التي بدأت سنة 2005 بين الاتحاد الأوروبي وتركيا حول انضمام الأخيرة إلى العائلة الأوروبية. خلال ذلك الاجتماع، ترك ساركوزي موقف فرنسا واضحا وهو: لا للانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي لأنها دولة غير أوروبية، ونعم لشراكة متطورة”.
وقتها اقتنعت تركيا بأنها أمام اختيارين، الاستمرار إلى الأبد في دق باب الاتحاد الأوروبي الذي لن ينفتح عكس باب منظمة شمال الحلف الأطلسي الذي انفتح لها لأسباب عسكرية محضة، أو العمل من أجل زعامة الشرق الأوسط في سيناريو شبيه بالوضع الجيوسياسي الذي كان للخلافة العثمانية في البحر الأبيض المتوسط. وفهمت تركيا الموقف الفرنسي بأنه عداء تاريخي وعمل يهدف إلى تقليص النفوذ التركي الإقليمي في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط ويربط أنقرة بملفات تاريخية.
وتطورت العلاقات الفرنسية-التركية نحو الأسوأ طيلة السنوات الماضية لاسيما في ظل وجود رئيس حكومة ثم رئيس يحلم بتركيا الكبرى، وإن لم يكن على مستوى الرقعة الجغرافية فعلى مستوى الوضع الجيوسياسي، حتى انفجرت في الملف الليبي الذي سجل ما يشبه المواجهة العسكرية وتبادل الاتهامات بتعابير قوية تخالف كل ما هو دبلوماسي. ويمكن اختزال التصريحات فيما صدر عن إيمانويل ماركون بوصف ما تقوم به تركيا “بالجريمة التاريخية في ليبيا” ورد طيب رجب اردوغان بأن “سياسة فرنسا تدميرية في ليبيا”.
ومنذ بدء التدخل التركي بقوة في ليبيا تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تقلص الدور الفرنسي إلى مستويات يمكن وصفها سياسيا وعسكريا بالهزيمة الحقيقية التي لم تعاني منها باريس منذ عقود طويلة. وكتب المحلل السياسي الإيطالي فسينسو نيكرو في الجريدة الإيطالية “لاربوبليكا” 17 حزيران/يونيو 2020 أن أوروبا وخاصة فرنسا قد فقدت ليبيا ولم يبقى لأوروبا سوى شمال أفريقيا، في إشارة إلى المغرب العربي-الأمازيغي. وتعود الهزيمة الفرنسية في الملف الليبي أو بعبارة دبلوماسية فقدان باريس لمخططات توسيع نفوذها ومنها السيطرة على النفط الليبي إلى العوامل التالية:
أولا، شعور تركيا بأنها ضحية مخطط دولي بقيادة فرنسا ويضم اليونان العدو التقليدي ومصر والإمارات العربية والسعودية لمحاصرتها وتقليص نفوذها في البحر الأبيض المتوسط، وأساسا حرمانها من الاستفادة من موارد الطاقة سواء في ليبيا أو في البحر في وقت يتطور الاقتصاد التركي ويردي لتحول إلى ضمن العشر الأوائل.
ثانيا، عدم استعداد الاتحاد الأوروبي دعم فرنسا في مخططاتها في ليبيا بعدما تبين أنها تمارس كالعادة سياستين مختلفتين، فهي مع السياسة الخارجية الأوروبية ولكنها بشكل أكبر مع التنسيق مع مصر والإمارات والسعودية واليونان. ولم يستوعب الاتحاد الأوروبي كيف سيدعم فرنسا وهي التي تساند قوات خليفة حفتر في مواجهة حكومة الوفاق الوطني التي تعترف بها الأمم المتحدة، علما أن الاتحاد الأوروبي ينادي بدعم مواقف الأمم المتحدة. وتعد إيطاليا الدولة التي تعارض مخططات فرنسا وتميل إلى دعم الدور التركي في ليبيا.
ثالثا، انسحاب بريطانيا من الملف الليبي بعدما كانت رفقة فرنسا تخطط سنة 2011 إلى تقسيم ليبيا إلى تقسيم، غرب غني بالبترول وشرق فقير، وباء هذا المخطط الذي كشفته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، بالفشل نتيجة ور واشنطن المعارض له.
رابعا، معارضة واشنطن لسياسة فرنسا في ليبيا، فهي الآن في تفضل التدخل التركي لأنه الوحيد الذي قد يحول دون تموقع عسكري روسي في شواطئ ليبيا، وإذا نجح الروس سيشكل الكثير من التحديات للحلف الأطلسي في المستقبل. ولهذا، حالت واشنطن دون تحميل تركيا مسؤولية الحادث العسكري الذي وقع يوم 10 يونيو الماضي عندما منعت فرقاطة تركية نظيرتها الفرنسية تفتيش سفينة تركية تحمل أسلحة إلى ليبيا، ثم الاجتماع بين قادة أفريكوم “القوات الأمريكية في أفريقيا” مع حكومة الوفاق الليبية التي تحارب قوات خليفة حفتر.
خامسا، وهذا هو المعطى الحاسم وتتجلى في قرار تركيا إرسال قوات عسكرية إلى الميدان وتسليح قوات السراج مستغلة اعتراف المنتظم الدولي بها، وبالتالي صلاحية الاتفاقيات العسكرية الموقعة بين أنقرة طرابلس. في حين لا تستطيع فرنسا إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا بسبب معارضة البرلمان والاتحاد الأوروبي وظروف جائحة كورونا، باستثناء بعض الكوماندوهات سابقا وتسليح حفتر عبر دول ثالثة وأساسا الإمارات العربية ومصر. لكن كل هذا لم يصمد أمام الترسانة التركية ولاسيما الطائرات بدون طيار ذات الصنع التركي التي أبانت عن دقة في ضرب الأهداف، وهي مفاجأة لعدد من الدول المصنعة للسلاح.
أمام كل هذه التطورات اضطرت فرنسا خلال الأسبوع الجاري إلى الانسحاب من عملية “حراسة البحر” التي تهدف إلى منع نقل الأسلحة إلى ليبيا، تحت قيادة الحلف الأطلسي بعدما لم تجد دعما أطلسيا وأوروبيا في مواجهة تركيا. انسحاب بحجم انتكاسة حقيقية بشأن مخططات فرنسا لأنه ينهي نهائيا حلم بناء نصف الدائرة جيوسياسية من موريتانيا إلى شواطئ ليبيا المتوسطية. وتتحدث الطبقة السياسية والصحافة الفرنسية عن هزيمة حقيقية لباريس في الملف الليبي، وهو ما لخصته “لوموند” في افتتاحية لها الشهر الماضي بأن الملف الليبي أصبح بين روسيا وتركيا بينما الاتحاد الأوروبي وفرنسا خارج دائرة الصراع. في المقابل، تبرز الصحافة التركية ومراكز التفكير الاستراتيجي الربح الاستراتيجي للنفوذ التركي في ليبيا.
مشاركة ماكرون في قمة الساحل في موريتانيا بداية الأسبوع، ما هي إلا محاولة للتعويض عن الانتكاسة في البحر الأبيض المتوسط، لأول مرة تجد فرنسا لاعبا جديدا يقوم بفرملة سياستها في المنطقة.